افتتاح بطولة إفريقيا للكرة الطائرة «سيدات» بالأهلي    تامر حسني يبدأ تصوير فيلم «ري ستارت» في مايو    رحلة فاطمة محمد علي من خشبة المسرح لنجومية السوشيال ميديا ب ثلاثي البهجة    التربية للطفولة المبكرة أسيوط تنظم مؤتمرها الدولي الخامس عن "الموهبة والإبداع والذكاء الأصطناعي"    أسعار الذهب فى مصر اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    بالصور.. إحلال وتجديد 3 كبارى بالبحيرة بتكلفة 11 مليون جنيه    وزير التنمية المحلية يعلن بدء تطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال العامة    خبراء الضرائب: غموض موقف ضريبة الأرباح الرأسمالية يهدد بخسائر فادحة للبورصة    وزيرة البيئة تعقد لقاءا ثنائيا مع وزيرة الدولة الألمانية للمناخ    النواب يرسل تهنئة رئيس الجمهورية بذكرى تحرير سيناء    عاجل| مصدر أمني: استمرار الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي للوصول لصيغة اتفاق هدنة في غزة    وزير الخارجية الروسي يبحث هاتفيا مع نظيره البحريني الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والتصعيد بالبحر الأحمر    ذاكرة الزمان المصرى 25أبريل….. الذكرى 42 لتحرير سيناء.    مصطفى عسل يتأهل لنهائي بطولة الجونة للإسكواش ويستعد لمواجهة حامل اللقب "على فرج"| فيديو    تحطم سيارتين انهارت عليهما شرفة عقار في الإبراهيمية بالإسكندرية    والدة الشاب المعاق ذهنيا تتظلم بعد إخلاء سبيل المتهم    الآلاف من أطباء الأسنان يُدلون بأصواتهم لاختيار النقيب العام وأعضاء المجلس    وفد جامعة المنصورة الجديدة يزور جامعة نوتنجهام ترنت بالمملكة المتحدة لتبادل الخبرات    «الصحة»: فحص 434 ألف طفل حديث الولادة ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    مزارع يقتل آخر في أسيوط بسبب خلافات الجيرة    «التعليم» تستعرض خطة مواجهة الكثافات الطلابية على مدار 10 سنوات    سكاي: سن محمد صلاح قد يكون عائقًا أمام انتقاله للدوري السعودي    وزارة الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة 3 مايو    حصاد الزراعة.. البدء الفوري في تنفيذ أنشطة مشروع التحول المستدام لإنتاج المحاصيل    الناتو يخلق تهديدات إضافية.. الدفاع الروسية تحذر من "عواقب كارثية" لمحطة زابوريجيا النووية    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    مدينة أوروبية تستعد لحظر الآيس كريم والبيتزا بعد منتصف الليل (تعرف على السبب)    "الدفاع الروسية": "مستشارون أجانب" يشاركون مباشرة في التحضير لعمليات تخريب أوكرانية في بلادنا    إيرادات الخميس.. شباك التذاكر يحقق 3 ملايين و349 ألف جنيه    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    خطيب الأوقاف: الله تعالى خص أمتنا بأكمل الشرائع وأقوم المناهج    مياه الشرقية تنفذ أنشطة ثقافية وتوعوية لطلبة مدارس أبو كبير    قافلة جامعة المنيا الخدمية توقع الكشف الطبي على 680 حالة بالناصرية    طريقة عمل ورق العنب باللحم، سهلة وبسيطة وغير مكلفة    مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. في القاهرة والمحافظات    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية بالعاصمة الإدارية    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    سميرة أحمد ضيفة إيمان أبوطالب في «بالخط العريض» الليلة    أمن القاهرة يكشف غموض بلاغات سرقة ويضبط الجناة | صور    تأجيل الانتخابات البلدية في لبنان حتى 2025    دعاء صباح يوم الجمعة.. أدعية مستحبة لفك الكرب وتفريج الهموم    تشافي يطالب لابورتا بضم نجم بايرن ميونخ    اتحاد جدة يعلن تفاصيل إصابة بنزيما وكانتي    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    عرض افلام "ثالثهما" وباب البحر" و' البر المزيون" بنادي سينما اوبرا الاسكندرية    الشركة المالكة ل«تيك توك» ترغب في إغلاق التطبيق بأمريكا.. ما القصة؟    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    مساعدو ترامب يناقشون معاقبة الدول التي تتخلى عن الدولار    رمضان صبحي: نفتقد عبد الله السعيد في بيراميدز..وأتمنى له التوفيق مع الزمالك    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    أطفال غزة يشاركون تامر حسني الغناء خلال احتفالية مجلس القبائل والعائلات المصرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفصل الأول من رواية "قلب جهنم" للكاتب الروائى براء الخطيب
نشر في اليوم السابع يوم 24 - 01 - 2010

تعود السفن وأنت لا تعود (البحر قتيل ينزف الماء من جنبيه) والبحر كانت أعماقه المظلمة تطرد عفونة الأجساد النتنة وغيمة واطئة تمر بالقلب – الآن قرب سطح البحر – وتصبح أقرب من رجفة القلب، والنوارس عالقة بين السماء وبين سطح البحر لا يقر لها قرار تدفع الثمن المعلوم، وها هى السفن تعود وأنت لا تعود، ويكون الموت – فى كتاب السفر – ماء تغسل فيه الأجساد (عند رسو المراكب فى الموانى الغريبة) للطهارة، فتعود كما كانت قبل النجاسة، وكما كانت تعود: رماد الحياة، وتكون الحياة ماء والموت ماء؛ وتصبح أنت الحى وأنت الميت؛ فقل: لو كان البحر مدادا لنفد البحر؛ لو كان البحر مدادا قبل أن تنفد تلك الكلمات.
***
ما حدث فى البحر كما جاء فى الحكاية التى حكاها مطر أفندى:
بعينه – البلورية – اليمنى غمز ملك البحر القادر للشمس فاختفت خلف سواد السحاب، وبعينه – العوراء – اليسرى غمز للأمواج فانفلتت من محبسها البعيد وراحت تضرب سفن سليمان الحكيم، فلا الناضورجية رأوا الصخور التى ترتطم بها سفنهم فى كل مكان ولا ملاحو الدفة استطاعوا التحكم فى دفاتهم، فامتلأت أخنان المراكب بالماء فغرق منهم من غرق، حتى إذا صارت الشمس إلى الحوت فى الاستواء الربيعى أرسى الحكيم بسفنه وجنده وأسراه إلى جزيرة خالية من كل إنس وجن، لكنها كانت مليئة بطيور النورس، وكانت النوارس لا تعد ولا تحصى وقد عششت على خرائب المساكن وعلى قمم الأشجار: تحجب الشمس عن الجزيرة عندما تطير وتصم الآذان عندما تقعقع، استدعى سليمان النبى كاتبَه آصف – الذى أحضر له عرشَ بلقيس- وكذلك استدعى أهل الخبرة والعلم وأولئك الذين يكشفون الغيبَ ويتعاملون بالنجوم وسألهم عن النوارس فلم يجبه أحد وكان الهدهدُ– ذلك اللئيم– يبتسم فى سخرية، فلمحه سليمان فزعق فيه :
- "لماذا تضحك أيها اللئيم؟"
رفرفت السخرية– من الحكيمِ– داخل قلب الهدهد وقال:
- "يا نبى الله علمت أن بنت صيدون بين أسراك يا مولاي، وهى تعرف سر النوارس".
قال سليمان:
- "ويل لك إذا كنت تمزح مثل مزحتك السخيفة يوم دعوتنى وعساكرى للعشاء، وصدت أنت جرادة رميتها فى البحر، أتذكر ما قلته يومئذ أيها اللعين؟ ردد ما قلته أيها النتن".
قال الهدهدُ:
- "قلت يا مولاى: كلوا، يا نبى الله من فاته اللحم نال من المرق، أنالا أهزأ هذه المرة، ابنة "صيدون" تعرف سر النوارس وأدام الله سلطانك يا مولاى، ها هى "جزيرة النعيم" تحت قدميك فيها أشجار باسقات وجنات وكروم تجرى من تحتها الأنهار".
قال الحكيم:
- " إذن هيّا أيها الرسول وآتنى بابنة الساحر "صيدون" لنسمع حكايتها".
ما حدث يومها على الشاطئ:
وللبحر قبل طلوع الشمس رائحة، ومحاسن تحمل بين القميص وبين لحم الجسد حجابا:تعويذة الغجرية حتى يعود الغائب، آه، وما بين لحم الجسد والثوب - مملكة الأنوثة والخطر– ثديان يكمن الحجاب بينهما (العينان بئرا حزن ليلية، والرموش حبال للغرقى). وفى القلب كانت تنغرسُ سكين الخديعة.
لملمت محاسن شعرها المتطاير وأحكمت العصابة السوداء على رأسها ورفعت الثوب الأسود حتى ركبتيها وسوّت لها مكانا فوق رمال الشاطئ واجتاحها إحساس بالنشوة عندما لامس الرمل فخذيها، فاستسلمت لتلك النشوة الباردة وشخصت بعينيها تجاه الشرق – خلف مرسى الصيادين – منتظرة شروق الشمس .
من البعيد ومن بين بخار الماء والضباب جاءتها صورته: الأب الذى زوّجها لزوجها الغائب أتراه قتل؟ أم تراه هناك ؟ هناك خلف ذلك البحر الوسيع، مات الأب بعد أن أنجبت من الصياد- الذى يقول عنه الجميع أنه غرق فى البحر– ولدين ( السحاب– المفتون بالرحيل– يسرع من الغرب إلى الشرق ويغدو الفضاء أرضا واسعة المدى ).
مدت محاسن إصبعها السبابة وأخذت تعبث بالرمل، داهمها وجه الغجرية:
- "وشوشى الودع يا صبية ".
وتتناول الودع :
– " أنا يا ودع وحيدة، وحيدة يا ودع وقد مات الأب ورحل – قتل أو غاب – الزوج والولد الأكبر قتل فى الحرب بيننا وبينهم ولم ينته عدونا من فوق ظهر الأرض، فها هو الولد الثانى ينام– فى الخندق– على الحدود، فأعده لى يا ودع ودلنى أين الزوج، وهل يعود؟"
قالت– يومها– الغجرية:
- "كبدى عليك يا ابنتى تحبلين نطفتين من صلب قتيل، نطفة تكون ذكرا، آه، يقول الودع أن النطفة الأخرى ذكر أيضا يا ابنتى: يقتل الأول يا زهراء وحيدا بين أصدقائه ويرتوى من دمه حاكم ظالم".
قاطعتها محاسن:
- " لقد قتل يا امرأة، قتل فى النكسة وهو يرقد الآن ربما فى "التل الكبير" أو "ممر متلا" أو ربما يكون فى "مقابر الشهداء" حيث يدفنون الشهداء بلا غسل أو حتى حلق شعر العانة، الثانى يا امرأة، الثانى، قولى لى عن الثانى".
قالت الغجرية:
- "كبدى عليك يا زهراء، الثانى؟ يا ويل قلبك الصغير، هل تلدينهم للحروب والقتل؟ أتلك لعنة؟"
قالت – يومها – محاسن:
- "كانت أمى تدعو لى صباح مساء والأب مات وهو عنى راض".
فحّت الغجرية:
- "يموت الثانى يا امرأة ميتة الفقراء فى الحروب: تفصل الرأس عن الجسد ويموت – يا زهراء – دون رشفة ماء".
ويغيب وجه الغجرية فى الرمل وبين الدمع المتساقط من عيون محاسن وتسمع دقات الباب، ومرة أخرى تعود لها تلك الدقات: نذير الشؤم، وتسمع الصوت المشئوم كما سمعته يومها، ويومها قال لها الجندى رفيق ولدها الثانى:
- "انفجر اللغم يا خالتى وغطى الدم وجوهنا فانقض علينا اليهود وغرقت فى بركة من الدماء وحينما حاولت النهوض لم استطع لأن ساقى اليمنى كانت على بعد خطوات منى، هه، لا تبك لقد ركبوا لى – فى المستشفى – هذه الساق الخشبية بمسامير من البلاتين الغالية الثمن، أما هو، ابنك، فقد رأيته وأنا أقاوم الإغماء: كانت رأسه قد فصلت عن الجسد وكان اليهودى هناك يغرس السونكى بين أسنانه، آه، كنا قد وقعنا فى الكمين رغم أن قائدنا كان يحمل على كتفه النسر والنجوم، آه، وقعنا فى الكمين قبل أن نقاوم وهزمنا دون أن يسمح لنا بالحرب".
ويغيب صوت الجندى – رفيق ولدها – والذى ربما كان هو ولدها الثاني، ولما لا أليس كلهم أولادها ؟ ويطغى صوت الموجِ على صوته ولم تعد تسمع سوى صوت الرياح والأمواج.
ما قاله الهدهد لابنة صيدون فى الحكاية:
- "لم يعد سليمان يملك صبرا، سر الجزيرة والنوارس قد ملك عليه قلبه ونحن نخاف إن طال عليه الأمر من غضبته، فعندئذ يا ابنة صيدون لا الرحمة ولا الشفقة تردعه فمقابل السر تشترطين أنت عليه أن يعتق أبناء قومك فإذا رفض فعليك بإغرائه بالمال فسلمى له مفاتيح كنوز أبيك وإذا عرض عليك الزواج فاقبليه رغم مساوئه وسوء سيرته، ليس لك الخيار فهكذا يتعامل الملوك، فوعودهم ليست بذات وثاق وغدرهم متوقع: مرة يبرره الشيوخ بالحكمة ومرة بحسن السياسة، فإذا رفضت أيتها الجميلة، فليس هناك إلا أن يبعثك سليمان ومعك أبناء قومك إلى كهف العناكب عند عين العقاب إلى الشرق من مملكة سبأ، حيث تتجمع فيه وتنسج حول المحكومين خيوطا متينة من نسيجها تشل قدرتهم فتتغذى عليهم فهم لا يموتون لينالوا راحة الأبدية ولا العناكب تكف عن قطع وقضم لحم أجسادهم فلا تغترّى أيتها الجميلة بنبوّة الحكيم، لقد قُدّ قلبه من الصخر وامتلك الجان وكبار السحرة واستعبد الناس والطيور، هذا دون رقيب أو محاسب، ذات مرة حاولنا– أنا وأبناء جنسى – الهرب إلى غابة كثيفة، فسيّر لنا عاصفة اقتلعت الغابة من جذورها واسودت السماء من الحريق واستطال منقارى من هول الصدمة ونتف ريشى وهزل جسمى وحملنى مارد عارى فى قفص من الحديد إلى قصر سليمان، مولاى سليمان الذى بكى – عندما رآنى – وتأسف بخبثه ودهائه ووضعنى فى مكان بارز قرب عرشه وأمر طبيبه الخاص أن يعالجنى كل يوم وكأنه يواسينى ولكنه فى الحقيقة كان يعرضنى – الخبيث – عبرة لمن يعصى أمره، وعندما تحسنت حالتى ونبت ريشى سألنى إن كنت أريد العيش فى الغابة فقلت له: " أية غابة يا مولاي؟ إن الغابات والبحار لم تعد تحمى الضعفاء بعد الآن". آه، لكن تلك حكاية أخرى، هيا بنا يا ابنة صيدون سوف أزينك بالحرير المزركش والجواهر الثمينة وأعطرك بالمسك والعنبر وما يليق بابنة ملك ساحر جميلة ورقيقة وسوف اصطحبك إلى سليمان الحكيم، هيا بنا فسوف أضع على رأسك تاجا مرصعا بياقوته حمراء".
ما قاله الهدد لسليمان:
- "جئتك يا نبى الله بغزالة المروج، أجمل نساء الزمان، الجوهرة المقدسة التى صيغت من نور الإيمان وتشربت من تسابيح العبادة، النظرة إلى عينيها تزيل الكدر، واللمسة من يدها تنسى الإنسان ذكر ربه، شعرها عشب الخلود فى وادى السعادة لو عرفت رياح الشرق مجلسها لغيرت مسراها لأجل أن تلمس شفتيها، هاأنا يا مولاى أركع تحت قدميها لأجمع قطرات الخجل والدلال التى تساقطت كحبات عقد انفرطت من جيد ربة الحسن والجمال، اقتربى يا ابنة صيدون وبوحى بسر النوارس لسليمان الحكيم".
قالت:
- "على أن يعتق مولاى كل أبناء شعب أبى".
قال سليمان:
- "موافق والهدهد شاهد على ما أقول".
لملك العصافير– الذى يجاوره على غصن واحد – قال الهدهد:
- "لم يجد سليمان أقوى منى شاهدا، ترى متى كان العبيد شهود حق على أسيادهم؟ سوف تجهز الليلة يا ملك العصافير ألفين من رعاياك : ألفا تقليه فى شحم خنزير تعده عشاء لمولانا وألفا تسلقه فى ماء من نيل أرض مصر: مزة شهية فى ليلة المضاجعة الملكية، وأدام الله سلطان مولاي، فها هى جزيرة النعيم تحت قدميه فيها أشجار باسقات وجنّات وكروم تجرى من تحتها الأنهار وهو فى المنتصف صنم على رأسه عصابة الموت وقاعدته من عظام الشهداء".
***
ما قالته ابنة صيدون لسليمان:
- "أدام الله سلطانك، كانت هذه الجزيرة فى قديم الزمان تدعى جزيرة النعيم وكانت فيها أشجار باسقات وجنّات وكروم تجرى من تحتها الأنهار وكان فى وسط الجزيرة صنم على قاعدة من مرمر ملون أما هو– الصنم– يا مولاى فكان من الحجر الأسود وعلى رأسه أكبر جوهرة فى زمانه، وكان هذا الصنم معبودا من الناس، كل الناس إلا امرأة واحدة كانت تُضرب بها الأمثال فى العقل والعفة تدعى ترتيلة الزمان، لم تسجد لهذا الصنم وكانت تؤمن أن الآلهة– يا مولاي– تسكن روح الإنسان ونفسه وضميره وكان زوجها الأسد الغالب، وهذا هو اسمه: عريض المنكبين قويم الخلق، أصيل النسب شهما، وكان لهما ولدان أجمل من البدر لحظة تمامه، مرت أيام وأيام وأهل جزيرة النعيم ينعمون بالهدوء والسلام لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، كلهم سواسية، حتى جاء ذات يوم يا مولاى حاكم ظالم– يا مولاي– فرّق بين الناس وجعل فيهم الكبير وفيهم الصغير وفيهم الغنى وفيهم الفقير، من يسكن فى القصر وفيهم من لا يجد المأوى، فعمّ القحط الشديد على عامة الناس فراح الكثير من الفقراء ضحية الجوع وفتك الأمراض، ومن تبقى قبع فى داره منتظرا رحمة السماء، وكعهدنا بالسماء طالت رحمتها فلم يبق فى الجزيرة كلب أو قطة إلا وأكلها الناس أو أطعموها صغارهم، فنادى زوجها الأسد الغالب فى الأسواق "اقتلوا مستغليكم وانتزعوا منهم حقوقكم". فتجمع الفقراء وقتلوا حاكمهم وولوا عليهم الأسد الغالب إلا أن المستغلين القدامى– أنصار الحاكم القتيل– كانوا أسرع منه فسرعان ما دسوا له من قتله، قتل الأسد الغالب فدفنته شيعته فى بيت ترتيلة الزمان، لأن الفقراء كانوا ينبشون القبور ويأكلون الموتى، بعدها – يا مولاي– قُتل الولد الأكبر وقال أنصار الوالى الجديد– المستغلين القدامى– أنه مات ميتة ربه، وقال قائل:" أن الوالى دس له السم فى العسل فتندرت العامة قائلة "إن لله جنودا من العسل". وبعد قتل الولد الأكبر هب الأصغر للثأر فقتل فى أخبار كثيرة ليس هذا مكانها وأصبحت ترتيلة الزمان وحيدة، وحيدة، وكان يجاورها يتيمان يكادان يموتان من الجوع فخرجت تسأل جارا يهوديا لها فأدخلها الدار وأراها ما عنده من سمن وعسل، وخبز خبزا، وسألها أن تطاوعه فيطعمها واليتيمين، إلا أنها أبت وذات يوم عصر الجوع اليتيمين فجاءها اليهودى اللئيم يتوسل يبغى الوصل والمضاجعة فأخذ يغرى "ترتيلة الزمان" فقط مقابل أن يضاجعها مرة واحدة بالأجر لكنها أبت، والأيام طالت كرحمة السماء، وجاءها اليهودى قائلا: " إذا كنت مصرّة فإنى أكتفى أن أراك عارية مرة واحدة مقابل كل وجبة طعام لك ولليتيمين". أراد اليهودى أن يضاجعها فى خيالاته الزرقاء ويكفيه أن يراها عارية، فوافقت، وذهبت لتطعم اليتيمين من طعام اليهودى الذى صعد إلى كوة فى أعلى غرفتها ونادى عليها أن تنفذ وعدها، وعندما سمعت نداءه تصبب جسدها خجلا وارتعش ندما وقامت تنزع عن نفسها الستر والصون فكانت كلما تعرى جزء من جسدها انتزعه الله من مكانه فيتفجر الدم يا مولاى شلالا قانى اللون: سقط الذراعان ثم النهدان، ثم الفخذان وغطى الدم الغرفة واليهودى المتلذذ يدعك نفسه منهمكا فى استحضار لذة خرافية وهو يئن ويتوجع من اللذة، فسمع الربُ أنين تأوهاته فمسخه فى الحال نورسا، وتكاثرت النوارس حتى ملأت الجزيرة : وها هو البحر تطرد أعماقه المظلمة عفونة الأجساد النتنة وخيمة واطئة تصبح الآن قرب سطح البحر، وها هى النوارس يا مولاى عالقة بين السماء وبين سطح البحر لا يقر لها قرار تدفع الثمن المعلوم.
تلك هى النوارس، وتلك هى حكاية النوارس يا مولاي، فهل تنفذ وعدك يا مولاى وتعتق قومى كما اشترطنا؟"
تكملة لما حدث يومها على الشاطئ:
كان الهواء يرتعش بزعيق ممزق وصراخ أبح لأصوات تصرخ كلها معا، وكان ميتم الأطفال ومرمِل النساء مستلقيا ومستريحا من هيجانه المسائى فطوى الريس جابر، ريس المستورة جابر ذيل سرواله مرتين ودفع بطرف المذراة إلى الماء ومثبتا الطرف الآخر فى كتفه فتندفع المستورة إلى الإمام فى رفق بمحاذاة الشاطئ .
رأت محاسن الفلوكة تسير بمحاذاة الشاطئ والريس جابر يقف فى منتصفها مستعدا لإلقاء الشبك فناداها صباها وغنى فى داخلها ذلك الصوت خالى البال:
حلوا المراكب مع المغرب وفاتوني..
ع الشط واقف بلا مركب وفاتوني..
ساعتها أنا قلبى شهق..
يشهد عليه الشفق.."
وها هى تسمع صوت طفل كان لها قتل فى النكسة:
- "عم يا مراكبي، أمى ولدت ولد نسميه إيه؟"
انحرف جابر بالمستورة تجاه الشاطئ حتى وصل إلى البر فألقى بالمرساة وبقفزة واحدة كان أمامها، اخذ بيدها وأوقفها قائلا:
- " إيه يا نوّاحة؟ من مات مات ومن راح لن يعود".
داهمها وجه الولد الأكبر وما لبث أن تداخل فيه وجه الولد الأصغر (وكأن أولادها كلهم ولد واحد) فدعكت عينيها براحتها فرأت وجه زوجها الغائب (ولم تكن تدرك أن من يقف أمامها الآن هو زوجها الحالي) ولف الدم الجميع، الدم الأحمر أحمر يلف الأرض والبحر والفضاء فصرخت من هول ما رأت وأرادت الانفلات من يد جابر التى أطبقت على يدها، تشبث جابر بيدها وراح يمسح على شعرها الأسود قائلا:
- " اللهم ألطف بعبادك، اللطف يا رب اللطف، يا خفى الألطاف نجنا مما نخاف".
أراحت رأسها فوق صدره وراحت ترتجف:
- "ضمنى يا حبيبي، يا أبا القتيلين ضمني، يا قمر الأرض ضمني، هل حال ما بيننا الماء ؟ وها هو دمع عيونى فلن يرد الدمع من غابوا، من يعيد الميتين؟ لا أنا ولا أنت يا حبيبى نملك أن نعيدهما إلى رحمى ماء، اغسل شفتيك فى عنقى واقتسم معى رغيف الفقر، فضمنى يا حبيبى ضمني".
كانت الشمس قد بدأت أشعتها فى اختراق الضباب فجذبت الأشعة الصيادين من مكامنهم، تجمع بعض الصيادين حول ذلك المنظر: محاسن المجنونة تحتضن زوجها الريس جابر الذى راح يمسح على شعرها وبعض الدموع المتجمدة تكاد تنفلت من عينيه ورأت محاسن ذلك المنظر: بعض الفضوليين من الناس الذين هم ألسنتهم مبارد فى أعراض الناس راحوا يتجسسون عليها هى وزوجها، لكنها لن تخجل من احتضان رجلها حتى تحت أشعة عيونهم التى تفلق الحجر، فهمست:
- "ضمنى يا رجل ضمني، أنهم بعض الذباب".
أحس ريس المستورة بحرج موقفه عندما انفلتت ضحكة ساخرة من فم الولد خميس قشطه، فحاول الانفلات من بين ذراعى محاسن التى تشبثت برقبة الرجل وداهمتها لحظة النشوة فى ليلة السفر مع زوجها السابق الذى غيّبه البحر الظالم: يدك على ظهرى يا رجل تحسس تلك الفقرات فقرة فقرة ويصبح صدرى بين صدرك وبين يديك وها هما الحلمتان تتحسسان الشعيرات فى صدرك، فى الصباح تسافر تحملك المراكب إلى مدن العالم المقفلة الأبواب وتكون سمائى بعدك دون طيور ويكون الموت فى بيتنا أليفا كالقط يا خوفا يسكن أحشائي، يا رعدة أدم فى رحمى وتكون الذكرى – ذكراك – ملحا لطعامى وخيطا لخياطة أثواب الأطفال".
سمعت الرجل – وهو يحاول الانفلات من ذراعيها – يقول:
- "ليس أمام الناس يا امرأة، ليس أمام الناس يا محاسن".
صرخت:
- " أنت زوجى وأنا زوجتك وسوف أخلع لك ثيابي، كيومنا الأول فى المضاجعة الأولى فى ليلة عرسنا سوف أخلع لك ثيابي".
شقّت الثوب من الأمام فانقضّت أشعة الشمس على ثدييها اللذين برزا فى تحد للجميع، تراجع الريس جابر وهو يتمتم:
- "لا حول ولا قوة إلا بالله".
عادت محاسن تصرخ:
- "أنت إذن لست هو؟ فهو لم يكن يخاف الناس، كان يضاجعنى والشبّاك مفتوح وتحت أشعة القمر وكان يعرف أن بعضهم يراقبنا من فوق أسطح المنازل المجاورة، كان يضاجعنى فى الليلة ثلاثة مرات، هل تخاف ؟ فما بالك لو خلعت لك كل ملابسى كيوم ولدتنى أمى ؟ كان يضاجعنى ثلاث مرات يا غجر، وسوف أريكم ما كنت أمتعه به".
أكملت شق ثوبها حتى الذيل ونزعت قميصها وراحت تقفز فى الهواء قفزات غير منتظمة عارضة جسدها المشدود رغم سنها على الجميع، تقيأ ريس المستورة بلا سبب وأقعى مستندا إلى سور الكورنيش، فجأة هبطت عليها شبكة من تلك الشباك التى كان زوجها السابق يجيد غزلها فحاولت التملص منها لكن الولد "خميس قشطه" كان قد أحكم لفها جيدا، فراحت تصرخ:
- "كلكم كلاب، ليس فيكم رجل واحد وأنا لم أتزوج إلا الريّس "مصري" فهو ريّس المستورة الحقيقى كما أنه كان سيد قلبى وجسدى وما عداه عدم".
استسلمت للبكاء ومن بين الدمع المتساقط رأت وجه الغائب فهمست:
- "تعود السفن وأنت لا تعود".
والبحر قتيل ينزف الماء من جنبيه، الحياة ماء، الموت ماء، تغسل فيه الأجساد (عند رسو المراكب فى الموانى الغريبة حيث نسوة اللذة يبعن للبحارة والمسافرين المكان والزمان والجسد) فتعود كما كانت قبل النجاسة وكما كانت تعود رماد الحياة.
***
عندما اختلطت الحكاية مع ما يحدث على الشاطئ:
وللبحر– يا مولاي– قبل طلوع الشمس رائحة، ومحاسن تحمل بين القميص وبين لحم الجسد – مملكة الأنوثة والخطر– ثديين يكمن الحجاب بينهما والعينان– يا مولاي– بئرا حزن ليلية والرموش حبال للغرقى، غزالة المروج، أجمل نساء الزمان، الجوهرة المقدسة التى صيغت من نور الإيمان وتشرّبت من تسابيح العبادة، النظرة إلى عينيها تزيل الكدر واللمسة من يدها تنسى الإنسان ذكر ربه، شعرها عشب الخلود فى وادى السعادة لو عرفت رياح الشرق يا مولاى مجلسها لغيرت مسراها لأجل أن تلمس شفتيها، هاأنا يا مولاى أركع تحت قدميها لأجمع قطرات الخجل والدلال التى تساقطت كحبات عقد انفرطت من جيد ربه الحسن والجمال: ترتيلة الزمان، الزهراء، رفيقة الحسيب القويم الخلق، الأسد الغالب يا مولاي، القتيل، أبا القتيلين زعيم الفقراء يا مولاى ونحن الفقراء انتظرنا رحمة السماء وكعهدنا بها طالت رحمتها فلماذا الحزن يا محاسن؟ من مات مات ومن سافر لن يعود، فضمنى يا حبيبى يا أبا القتيلين ضمني، كانت فى رحمى منك نطفتان وفى الصباح تسافر فضمنى يا قمر الأرض، هل حال ما بيننا الماء؟ ضمنى يا رجل إنهم بعض الذباب، آه، تعود السفن وأنت لا تعود، فى الصباح تسافر تحملك المراكب إلى مدن العالم المقفلة الأبواب وتكون سمائى بعدك دون طيور ويكون الموت فى بيتنا أليفا كالقط، يا خوفا يسكن أحشائى يا رعدة آدم فى رحمى وتكون ذكراك ملحا لطعامى وخيطا لخياطة أثواب أطفالى فى ليالى الشتاء، الحياة ماء، الموت ماء، كان البحر قتيلا ينزف الماء من جنبيه ولم يجد سليمان أقوى من الهدهد شاهدا، فَتُرى متى كان العبيد شهود حق على أسيادهم ؟ فالليلة تجهز يا ملك العصافير ألفين من رعاياك: ألفا تقليه فى شحم خنزير وألفا مسلوقا فى ماء من نيل أرض مصر فى ليلة المضاجعة الملكية، فالرعايا دائما طعام الملوك والأنبياء، ويغيب الدمع فى عينى ترتيلة الزمان محاسن ويداهمها وجه الغجرية ويموت الأول ويموت الثانى والثالث والمليون فكبدى عليك يا ابنتى تحبلين نطفتين من صلب قتيل، يقتل الأول يا زهراء وحيدا بين أصدقائه ويرتوى من دمه حاكم ظالم، كبدى عليك يا زهراء، يموت الثانى يا امرأة ميتة الفقراء فى الحروب، يا ويل قلبك الصغير، هل تلدينهم للحروب والقتل ؟ يموت الثانى يا زهراء دون رشفة الماء الأخيرة، ويصرخ جندى فقد ساقه فى النكسة: " كنا قد وقعنا فى الكمين رغم أن قائدنا كان يحمل على كتفه النسر والنجوم، آه، وقعنا فى الكمين قبل أن نقاوم وهزمنا دون أن يسمح لنا بالحرب، آه، أنا يا ودع وحيدة وحيدة يا ودع".
***
الريّس جابر يحكى لصديقه مطر أفندى ما حدث يومها على الشاطئ:
- "اسمع يا مطر أفندي، اسمعنى جيدا يا رجل، أنا لا أكذب عليك، ومن منا نحن الصيادين يستطيع أن يكذب على معلم تلاميذ عالم وخبير وحافظ كتاب الله مثلك ؟ أنت رجل تعرف الكفت كما أنك تفهمها وهى طائرة وربما قبل أن تطير وبالذات وأنت سكران، وهانحن نشرب الخمر معا على حسابى فدعنى أحكى لك يا رجل حكايتها معي، حكاية محاسن معي، حتى تعرف حكايتها منى وليس من كل من هب ودب، فأنا الرجل الوحيد الذى عاش بعد أن ذاق حلاوة هذه المرأة، فكل الرجال الذين تذوقوا عسلها– فى الحلال– ماتوا، كلهم ماتوا إلا أنا، ومع أنى قد ذقت حلاوة طعمها فى الحرام وهى غائبة العقل فتزوجتها فى الحلال تقربا إلى من خلقنا وحتى أحفظ لها الفلوكة التى ورثتها من زوجها السابق، هذه المرأة محاسن لا توجد امرأة على شط الإسكندرية ولا على أى شاطئ من شواطئ الدنيا تشبهها، محاسن كانت تختلف عن كل النساء وربما كانت العجينة التى صنع منها الله جسدها تختلف عن بقية الخلق، فربما عجنها– سبحانه– من العجينة التى خلق منها الملائكة ثم مزجها بالعجينة التى خلق منها الشياطين: فى كفيها حنان الملائكة، فى لسانها حلاوة أصابع الملائكة لكن– واحذر من لكن هذه– مابين فخذيها كانت تسكن كل الشياطين ومن هرب من الشياطين من بين فخذيها فقد سكن فى عينيها، قبل أن أتزوجها كانت تحت المرحوم– أو الغائب– مصري، الريس مصري، ريس المستورة كان أمهر صياد فى الأنفوشى بل وإسكندرية كلها وربما فى بر المحروسة كله، أنجبت منه ولدا واحدا، ولا تسمع كلامها الذى كانت تقوله من إنها أنجبت ولدين فقد كان لطف الله يختفى فى مخها لدرجة أنها كانت تتصور أن كل ولد فى الأنفوشى قتل فى الحرب مع اليهود ابنها، لكن هل هى التى ولدت كل الشهداء– وما أكثرهم يا مطر أفندي– فى الجيش المصرى ؟ بل دعنى أكون أكثر صراحة معك فأنا حتى هذه اللحظة التى أشرب فيها هذه المدعوقة معك أشك أن هذا الولد ابنها ولا تسألنى لماذا أشك الآن فقد ربيته أنا بنفسى ودفعت رشوة فى السجل المدنى لأستخرج له شهادة ميلاد بأنه ابنى وصار اسمه من يومها أحمد جابر المرسي، ثم تركنى بعد موت أمه وقد انتهى هذا الموضوع من حياتى ولم أعد أفكر فيه لأنى كلما فكرت فيه أبكى، وأنا لا أكره نفسى إلا وأنا أبكى، هه، دعنى أنا الذى لست سكران أكمل لك حكايتى مع محاسن التى أصابها لطف الله قبل أن تموت، عليها رحمة الله ورحمة الله علينا جميعا موتى وأحياء، محاسن أجمل نساء الزمان، الجوهرة المقدسة التى صيغت من نور الإيمان وتشربت من تسابيح العبادة، النظرة إلى عينيها تزيل الكدر، واللمسة من يدها لا تنسى الإنسان ذكر ربه، شعرها عشب الخلود فى وادى السعادة، فأنا تزوجتها ولم يكن عندها إلا المستورة ذلك القارب الذى ورثته من زوجها وأصبحت أنا– بعد زواجى من محاسن– ريسا له، ولم يكن عندها أيضا إلا الولد الوحيد الذى ربيته أنا بعرقى وأنفقت عليه من حرّ مالى ودفعت من أجله الرشوة ليحمل اسمى إلى أن كبر ودخل الجيش ويعلم الله كم كنت أحب هذا الولد، صدقنى يا مطر أفندى أنى ربيت الولد أحمد كأنه ابنى مع أن أمه هى التى قالت عنه أحمد البوز لأن وجهه بذقنه المدببة كان يشبه بوز الكلب ولم تكن أمه تناديه إلا بوز الكلب فلما عاتبتها قالت حتى يعيش الولد لابد أن اسميه هذا الاسم وأن أشحت عليه ثمن الحليب من المصلين فى المساجد، محاسن ترتيلة الزمان كانت تدور على المساجد تمد يدها وتشحذ عليه حتى تضلل ملاك الموت عنه فلا يصل إليه وهو على كتفها إلى أن كبر ودخل الجيش وانفجر فيه اللغم الذى أخفاه اليهود فى أرض سيناء، انفجر فيه اللغم وقطعوا له ساقه اليمنى فى مستشفى القوات المسلحة، وها هو يتركنى بعد أن ماتت أمه، مع أنه قال لى قبل أن يترك البيت أنه ليس غاضبا منى لأنى تزوجت زبيدة بعد موت أمه، هو الذى تركنى وترك البيت مع أن الناس الأوباش- الذين هم ألسنتهم مبارد فى أعراض الناس– يقولون أنى أنا الذى طردته حتى لا يخوننى مع زبيدة زوجتى الجديدة، هل يقولون عنى ذلك لأنى تزوجت امرأة تنز السمن البلدى من فخذيها؟ أنا أتحدث معك الآن يا مطر أفندى كما لو كنت أتحدث مع نفسى ولماذا لا أتزوج من زبيدة يا رجل بعد موت أم البوز؟ أليس من حقى أن أنجب؟ وها أنا بعد زواجى من زبيدة كل هذه السنين ليس عندى ولد مثل كل خلق الله، أنا لم أسكر بعد يا رجل، زبيدة لم تنجب لى ولدا حتى الآن يا مطر أفندى مع أنى أضاجعها فى الليلة الواحدة ثلاث مرات، ونذرت النذور للمرسى أبى العباس وأكلت إحليل الثور بجوزة الطيب ودرت حول صخرة التوبة بعد كل صلاة جمعة وعلقت فى رقبتى الحجاب الذى كتبه لى الشيخ زويلى المبروك، لماذا لم يهبنى الله ولدا بعد كل هذا؟ وها أنا أجلس معك وأبكى دعنى أبكى يا رجل فأنا لا أعرف كيف أبكى إلا إذا كنت سكران، وأنا لا أحب البكاء إلا وأنا سكران.
***
الهدهد يقول لنفسه ما لم يقله لسليمان:
أدام الله سلطانك يا مولاي، ها هى جزيرة النعيم تحت قدميك فيها أشجار باسقات وجنّات وكروم تجرى من تحتها الأنهار وأنت فى المنتصف صنم على رأسك عصابة الموت وقاعدتك من عظام الشهداء، آه، آه يا مولاى فأين يممت وجهك تجد السيف يرتد إلى النحر فتموت معلقا فى بحار الفقراء السكارى وتصير الطريق طريقين: طريقا للحياة وطريقا للموت، وتحمل من الأسماء اسمين: اسما للحياة واسما للموت، ويكون الزمان زمنين: زمنا لغروب الشمس وزمنا لشروق الشمس، ويكون الوطن وطنين: وطنا للسماسرة والخدم والقوادين، ووطنا للفقراء بينهما يولد جنينان: جنين للقهر وجنين للخلاص، آه يا مولاي: الحياة ماء، الموت ماء، فقل لو كان البحر مدادا فتلك حكايتى فعن محاسن والحياة والموت والسفر أحكي.
عن سميحة وغسلها لشعرها وعن الجرح الذى انفتح
أحست به وهو يغادر الفراش، تبعته إلى الريسيبشن :
- "صباح الخير يا معلم".
لم يلحظ أنها تستخدم كلمة المعلم– رد:
- "ليس خيرا يا رباب".
- "ألم تزل غاضبا علي؟".
- "البنت ماتت، ويجب على دفنها".
تهالكت على أول مقعد صادفها وبالرغم من أنها تعرف الإجابة، إلا أنها سألته:
- "أية بنت؟"
- "حليمة، ابنتى حليمة، ماتت، جاءنى الأودن بالخبر ولابد أن أدفنها، ليس لنا مدفن إلا قبر أبى فى مدافن المنارة، مفتاح المدفن مع زوجتى القديمة، لا ليست جوهرة، اسمها سميحة وهى أم بنتى التى جاءنى خبر موتها، تسكن فى نفس حينا القديم، فى أمبروزو، مفتاح المدفن عندها".
قالت رباب:
- "كنت غاضبا على، لا بأس، عرفت الآن سبب غضبك وهيجانك علي، مهما يكن أنا زوجتك وأم طفلك القادم".
هدأته الكلمات الناعمة قليلا، احتار فى سؤال يلح عليه: هل يذهب إلى زوجته السابقة سميحة فى حى أمبروزو ويطلب منها مفتاح المدفن؟
قالت رباب:
- "يمكننا شراء مدفن كبير".
هاله آن تدفن قطعة من لحمة خارج مدفن أهله، كان يريد أن يعيد الدم للدم والعظم للعظم، ماله يذكر حى أمبروزو الآن؟ وجوه من تركهم خلف ظهره تهاجمه، خلف كل الذكريات القديمة، الألم، الراحة، أمه التى تركها وجرى خلف جوهرة فى حى غيط العنب، تزوجها بعد أن طلق سميحة وبعد أن طلق جوهرة تزوج رباب، ومن يومها لم يعد لأمبروزو بعد ذلك أبدا، الفلوس، الندم، الشهوة، الجنون، إنه الجنون، انه أول الحزن يفتح الباب لتدافع الذكريات المهجورة، أيها الشريد الذى وجد نفسه أمام رحابه الوجع، وتلك حليمة ملقاة بين يدى جوهرة أمها التى لحس المخدر مخها، أيها الجسد الحبيب المسجي، قطعة اللحم من اللحم، أين أدفنك؟ حمل حيرته إلى رباب- قال:
- "هل أذهب إلى أمبروزو وأطلب من سميحة مفتاح المدفن الذى دفنت فيه أبي؟ أمى ماتت ودفنتها سميحة إلى جوار أبي، هل أذهب يا رباب؟".
ردت:
- "أذهب معك إذا أردت".
لا، أين تذهبين يا رباب؟، وأنت تصرخ من جنون الحيرة ولا من مغيث، الوجع فى حياتك: النساء وجع، امرأة أوصلتك إلى الخزى سوف تجدها فى انتظارك هناك فى حى أمبروزو، الآن لا تستند إلا إلى امرأة أوصلتك إلى الجنون، ها أنت منكسر تحت وطأة الحيرة، فقرر أن يقتل حيرته:
- "سوف أدفنها فى المدفن الذى دفنت فيه لحمي".
ثم تمتم:
- "عظام التربة تناديني، وحدى سوف أذهب إليها".
ارتدى ملابسه، لم يتناول إفطاره، لاحظت رباب أنه حتى لم يغسل وجهه ولم يطس وجهه بحفنة الكولونيا الفرنسية التى تشتريها له بنفسها، ودعته عند باب الشقة:
- "تروح وترجع بالسلامة".
وصل إلى بيت جوهرة، كان أحمد الأودن صديقه القديم وخادمه وفراش مكتبه قد غَسَّل حليمة وكفنها، ربت فوق كتف الأودن وسأله عن جوهرة زوجته التى ربت ابنته :
- "أين هي؟".
رد الأودن:
- "استولى عليها الأفيون، لم تعرف جوهرة بموت ابنتها، لم تعد تقوى على القيام من مطرحها".
أشعل سيجارة، وهمس:
- "سوف أدفنها فى مدافن المنارة مع أبى وأمي".
قال الأودن:
- "سوف أذهب معك".
تمهل قليلا أمام رغبته إلا أنه قال:
- "لا، عندك المكتب لتحافظ عليه، لا أمان للمكتب بدونك، جوهرة أيضا فى حاجة إليك".
حمل قطعة اللحم الممددة تلفها الأكفان وقد عطرها الأودن بعطر نفاذ ليخفى أية رائحة أخرى، هبط بها إلى الطابق الأرضى وخرج من باب البيت باتجاه سيارته، فى مدخل الحارة بامبروزو أوقف محرك الخنزيرة والتفت إلى المقعد الخلفى حيث تنام حليمة نومتها الأبدية، مر به رجل يركب دراجة، الرجل أوقف الدراجة ونظر إليه مليا من نافذة الخنزيرة، هل هو البوز؟ البوز أم الشحات؟ أم أحمد بوز الكلب بن محاسن؟ اللعنة على كل شيء، نزل الرجل من فوق مقعد دراجته وأمسك بمقودها ومد كفه من خلال النافذة:
- "الحمد لله على السلامة يا شحات".
لم يعرف الرجل ومع ذلك فقد مد يده وصافحه – قال الرجل:
- "أنا عويس جاركم، غيبة طويلة يا شحات، سوف تفرح سميحة لعودتك".
خرج من باب السيارة وأغلقه خلفه وعويس يطارده فى إلحاح وبصوته المشروخ:
- "أعرف أنه لا يوجع الرجل إلا موت أمه وهو فى الغربة، رحم الله جميع موتى المسلمين، نعم، كانت محاسن امرأة أصيلة، كانت أمك أصيلة، أهلا بعودتك سالما".
تلقى خبر موت أمه للمرة الثانية، عرف بموتها من الأودن قبل ذلك، وكل ما يهمه الآن هو أن يدفن ابنته، امرأة كانت تجلس أمام باب بيتها قالت صائحة:
- "إنه الشحات، هذا هو الشحات ابن المرحومة محاسن".
صرخت امرأة كانت تقف إلى جوار المرأة وصاحت
-"الشحات بن محاسن".
وصرخت امرأة أخرى:
- "يا سميحة، يا بنت يا سميحة، الشحات زوجك رجع يا امرأة ".
من فتح القلب للوجع والخيبة والفرار الأليم؟ انفتح الباب فاندفع الفرار الأول، وها نحن نلتقي، حاول يا شحات، سوف تنجح، لا تبك، إنك رجل، أنت رجلي، أنت عريسى وسوف تنجح لكن بالله عليك لا تبك، رقصت ستيته العالمة ليلة زفافه على سميحة، وغنت الحميدية العالمة شقيقة ستيتة العالمة، ورقص الولد فرج الله بالعصا، يقولون أن الدم يغطى المحرمة فى يوم الدخلة عندما تفتح العروس وتفض غشاء البكارة، الدم يغطى المحرمة، يقولون، لكنك لم تر دما، لم يكن هناك دم، ولم يبق– هنا– إلا الخيبة والفرار، كان لا بد أن يفر من أمبروزو قبل أن يلحقه العار، لم ينتصب ليلتها وانقض عليه عجزه فى ليلة دخلته على سميحة، تساءلت عيناه: أين هي؟ وقفت سميحة فى منتصف الدهليز واضعة يديها فى خصرها تنظر للنسوة الملتفات حولها يباركن لها عودة زوجها، فى عينيها تصميم وعناد، وقالت هنية:
- "هذا زوجك الشحات يا سميحة".
لأول مرة منذ فراره تنطق سميحة وترفع صوتها أمام الجميع:
- "بعد فراره بيومين أو أسبوعين، لم أعد أذكر، وأنا أمشط شعرى فضربتنى أمه وهى تصرخ، يا بنت الكلب، من تمشّط شعرها وزوجها غائب فإن زوجها لا يعود".
زغردت ستيتة ثم قالت:
- "ها هو قد عاد يا سميحة".
اتسعت الدائرة حول الشحات لتشمل سميحة التى صارت معه فى منتصف الدائرة– صرخت سميحة:
- "اليوم فقط سوف أغسل شعرى وأمشطه".
اندفعت سميحة إلى داخل شقتها بعد أن أزاحت هنية من سكتها، غابت لحظات ثم خرجت تحمل الباستيلة الملآنة بالماء وهى تصرخ:
- "ليشهد الجميع، لتشهد كل حارة بن أنس فى حى أمبروزو، اشهدوا يا خلق الله، فى كل عموم إسكندرية بلد أبو قرنين، اليوم فقط سوف أغسل شعري، وأمشطه".
مدت سميحة يدها فى باستيلة الماء وأخرجت الكوز الغارق فى قعرها وأخذت تدلق الماء على رأسها، تذكرت أنها لم ترفع المنديل من فوق رأسها أكثر من ثلاث سنين، نزعت المنديل من فوق رأسها واستمرت فى دلق الماء وسط ذهول الجميع، التصق ثوبها بجسدها وبانت الحلمتان على صدرها تحت الثوب المبلل بالماء، أدارت ظهرها إلى الجميع وعادت إلى شقتها، ما الذى أتى بك إلى هنا؟ كان يمكن أن تدفن حليمة فى أى مكان، تحرك أحمد البوز باتجاه باب الشقة الموارب، دخل وأغلق الباب خلفه فى هدوء وأسند ظهره على باب الشقة وهو يسمع همهمات النسوة التى لم ينصرفن فى الخارج، كانت واقفة فى منتصف الفسحة يتساقط منها الماء بعد لحظات مرت فى تجرع ريقه المر- نطق:
- "جئت أدفن ابنتي".
صمتت كأنها قبر، أنسدل شعرها الأسود الطويل فوق كتفيها كأغصان صفصافة نواحة على شاطئ ترعة المحمودية، سمعها تهمس:
- "احكى لي".
قال:
- "بعد أن رحلت عن بيتك لم أطلقك حتى اليوم لكنى تزوجت من جوهرة وأنجبت منها ابنتى حليمة، ماتت ابنتى وجئت أدفنها، أريد مفتاح مدفن العائلة فى المنارة".
اندفعت نظراتها باتجاه الدولاب المحفور فى الجدار، عرف أن المفتاح، فى مكانه القديم، فتح الدولاب، أخذ المفتاح – قالت:
- "كل شيء فى هذه الشقة كما تركته".
كزّت على أسنانها ثم قالت:
- "اقترب".
اقترب منها: ينتفض الغضب المكبوت فى أعماقها مغلَّفا بشبق الحرمان لمدة ثلاث سنوات، كنت لى كل شيء، وبعدك لم يعد لى شيء – قالت:
- "اقترب".
اقترب منها، مد يده يلمس كتفها، انتفضت متراجعة إلى ركن الفسحة، تسمّر فى مكانه، ما الذى أتى بك إلى هنا؟ أمسكت بحلق ثوبها وصرخت:
- "أنظر".
شقّت الثوب فبان جسدها:
- "أنظر لم يمسسه أحد، لم يلمسه احد يا كلب، كلب هارب، كلب سعران، هذا هو أنت، أخرج من بيتي، تخرج الآن من بيتى فلا أريد أن أراك".
قبض على مفتاح المدفن فى قبضته وفتح باب الشقة وخرج، أوسعت له النسوة طريقه باتجاه باب البيت، فجأة اندفعت سميحة خارجة بثوبها المشقوق ولحمها الأبيض تحت نظرات الجميع، ثدياها نافران فى وجه الجميع، جذبت أحمد البوز من قفاه وهى تصرخ:
- "لم ينتصب ليلة دخلتنا، هرب مني، واليوم عاد الكلب الهارب المسعور يطلب مفتاح مدفن أبيه".
حل الصمت على الجميع، عادت سميحة تزعق:
- "طلقنى أمام خلق الله، الآن ترمى على يمين الطلاق".
بصوت يسمعه الجميع قال:
- "أنت طالق يا سميحة وسوف تصلك ورقتك ومعها النفقة".
تنطفئ الشمس فى نهاية كل نهار، وأنا أنتظرك، تتجدد فى النهار الذى يليه وأنا أنتظرك، وأنا أبقى على حالي، واقفة فوق قدمي، هذا بيتى وهذه حارتي، حملت خيالك فى عباءتي، وانخلع قلبي، بالعرق عجنت خبزي، هذه الشقة لي، هذه الحارة لي، أنا هنا ولن تزحزحنى وحدتى ولن يزحزحنى زوج هارب من مكاني.
صرخت:
- "لا أريد منك نفقة، الآن تخرج من بيتي".
تبعه الجميع حتى باب السيارة، وفى مدافن المنارة فتح له حارس المقابر واللحاد المقبرة التى دفن فيها أبوه ودفنا له حليمة، من الميت حقيقة يا حليمة؟ دفنها وقرأ الفاتحة، رجع وركب الخنزيرة ولم يشعر أنه فى حاجة إلى استنشاق الهواء إلا عندما خَلَّف المقابرَ خَلْفَه.
لم يرجع إلى بيت زوجته الجديدة رباب، مر على المكتب، أخبره أحمد الأودن بأن رسولا من مكتب المحافظ قد جاء لزيارته، أدهشه ذلك وقال الأودن أنه لم يخبره عن سبب الزيارة فقال البوز بأنه متعب وسوف يعود للبيت طلبا بعض الراحة، أدار المفتاح فى الباب ودخل، كفت الضحكات، كانت رباب جالسة مع صديقتها القديمة سلوى حنفى تتضاحكان، انسحبت مستأذنة بموعد هام، دخل إلى غرفة نومه، وقفت خلفه فسألها:
- "ألم يسأل عنى أحد؟"
- "حضر سكرتير المحافظ".
- "لا أعرفه، ماذا قال؟".
- "قال بأن عليك أن تمر على سيادة المحافظ فى السابعة مساء، تم حجز موعد لك فى مكتب المحافظ".
اقتربت منه وأمسكت بيديه بين كفيها وقالت فى حنان:
- "البقية فى حياتك، علينا أن نتحمل، فإذا كنت فقدت ابنتك فإن ابنك قادم فى الطريق، لا تحزن، يبدو أن المحافظ يريد أن يعزيك".
- "وكيف عرف؟"
- "أنت من رجال الأعمال المعروفين فى إسكندرية الآن، أنا نشرت نعيا فى الجرائد الثلاث".
قال:
- "لكن المحافظ لا يعرفني!!"
قالت:
- "لا يوجد أحد فى إسكندرية لا يعرف حبيبي".
لم تستطع كلماتها أن تخفف من هجومه وخوفه الغامض – قال:
- "أستريح الآن وبعدها نرى ماذا يمكن عمله".
- "سوف أوقظك فى الساعة السادسة".
دخل غرفته، استلقى على السرير طلبا لغفوة تريح بدنه المكدود.
***
جلس فى سكرتارية سيادة المحافظ، ربما هدأت أعصابه قليلاً، وقليلاً بدأ الهدوء يعود إلى قلبه، لمح باب غرفة مكتب المحافظ يوارب قليلاً، عدل من وضع قدميه فوق السجادة وراح يؤكد لنفسه، أن حذاءه ليس قذرا، أطل وجه من فتحة الباب الموارب، أين رأى هذه الوجه؟ دقق النظر، إنه باهر المعايرجى سكرتير المحافظ، فى الليلة التى رآه فيها لأول مرة تملكه سؤال حائر عن بالعلاقة بين باهر ورجاء زوجة فؤاد المعايرجى مدير مكتب المحافظ، اللعنة على الجميع، أصابع باهر المعايرجى كانت تلعب فى شعرها، تنتفض العروق الجميلة من رقبتها ويرتج نهداها، أحمد البوز نافس باهر المعايرجى على قلب رجاء زوجة ابن عمه، وفاز عليه، ترى هل دعوة سيادة المحافظ لها دخل بهذا الأمر؟ هل يتدخل سيادة المحافظ من أجل علاقة غرامية بين أتباعه؟! أم أن سيادة المحافظ عرف بأمر العلاقة المحرمة التى بين البوز ورجاء المعايرجى زوجة فؤاد المعايرجى مدير مكتبه؟ هل جاء باهر المعايرجى ليشكو البوز إلى "سيادة المحافظ؟ لم ير سيادة المحافظ قبل اليوم، لا يعرفه، ثم أن علاقته برجاء زوجة فؤاد المعايرجى قد انتهت تماما بعد أن نقلت تماثيل جاره اليوناني– رحمه الله– إلى فيلا المكس تلك التماثيل الأثرية التى سرقها البوز وأعطاها لها، بعدها تركته رجاء وعادت إلى باهر عشيقها الأسبق على ما يعتقد، لا يمكن أن تكون رجاء قد اشتكته للمحافظ، بالرغم من أن العلاقة بينه وبينها قد انتهت، فقد انتهت بهدوء وصداقة، عادت إلى باهر المعايرجى أو لغيره، وعاد هو إلى رباب سالم، حاصرته الوجوه فى قعدته، لم يخرجه من الحصار إلا بسمه السكرتير الموجهة إليه، لمح البسمة فابتسم، باهر المعايرجى هو الذى يجلس– الآن– على مكتب سكرتير المحافظ، حياه باهر بهزه من رأسه، رد تحيته، ليس الموضوع إذن كما تصوره؟ خرج باهر يتأبط ذراع عضو مجلس الأمة فايز المعايرجي، أوصله للباب ثم عاد إلى البوز فى ابتسامة عريضة:
- "تفضل يا بوز بك، سيادة المحافظ سوف يستقبلك الآن".
وقف، تأكد من أنه قد أحكم صفّى أزرار الجاكت حول خصره، دخل، أُغلق الباب عليه من الخارج، نظر باتجاه المكتب الضخم الذى يجلس إليه سيادة المحافظ وصوت موسيقى خافتة ينبعث من مكان ما، أوسع أبواب الجحيم قد انفتحت، إنه معالى الوزير بلحمه وشحمه، هو نفس الرجل الذى قابله فى بيت فؤاد المعايرجي– قال:
- "مساء الخير يا معالى الوزير".
لم يرد سيادة المحافظ ولم يدعه للجلوس، بل وقف خلف مكتبه بدون حتى أن يبدى أية رغبة أو استعداد لمصافحته، اتجه معالى الوزير المحافظ ناحية النافذة، أغلق زجاج النافذة، تسرب إلى أذنه صوت زنة جهاز التكييف وهى تختلط بالموسيقى الخافتة للحظات، لمح البوز وجه معالى الوزير ينعكس على زجاج النافذة، صمت فى ترقب، أخيرا انقطع حبل الصمت عندما قال الوزير:
- "منذ اليوم الأول لتسلمى المحافظة تطلب النيابة التحقيق فى واقعة ضرب أبو المجد الحريري".
- "الشيوعي؟".
- "أنت تعرفه جيدا".
- "انقضى زمن يا سعادة الباشا".
- "النيابة فتحت الملف فى نفس يوم تعيينى محافظا".
تذكر وجه عيسى وابتسم وقال:
- "اطمئن يا باشا، معاليك، لن يعرفوا الفاعل".
- "وكذلك عملية الأسمنت".
- "أى أسمنت؟".
- "شركة الملاحة البحرية، الأسمنت الذى تسلمته من الجمارك وبعته هالكا لحساب فؤاد المعايرجي".
الجحيم يفتح أبوابه، تسلل خوف مبهم لكنه حاول التجلد، إذا كانوا يريدون المتهم الحقيقى فهو فؤاد المعايرجى أو أنت يا معالى الوزير– قال:
- "أنا لست المسئول عن ذلك معاليك".
- "من المسئول إذن؟"
- "أنا لا أتحدث فى هذا الموضوع يا سعادة الباشا، وأنا لا أعرف شيئا عنه".
- "سوف ينتزعون منك الاعتراف إذا تلفظ فؤاد المعايرجى باسمك ".
- "سوف أقطع لسان كل من يتلفظ باسمى فى هذا الموضوع".
التفت معالى الوزير له لأول مرة، لمح ابتسامة باهتة على وجهه فزادت حيرته، جلس سيادة المحافظ على مقعده خلف المكتب ودعاه للجلوس على المقعد المواجه له:
- "اسمعنى جيدا يا بوز، فؤاد المعايرجى متهم، تهمه كثيرة، كلها ثابتة عليه، فاحت رائحته، الرؤساء لا يحبون أن تفوح رائحة أحد بهذه الطريقة كما أن سيادة الرئيس السادات مهتم بهذا الأمر، أخبرنى مدير مكتب سيادته شخصيا بذلك فى مكالمة هاتفية بالأمس".
- "وما دخلى أنا يا سعاد البك؟"
- "لا تتعجل، لقد بعثت إليك لأننى أعرف رجولتك، فؤاد المعايرجى متهم، الحلقة تضيق حوله، قبضوا على وهدان وإسماعيل سرور فى الجمارك، وغيرهما فى بعض المصالح، كل التهم موجهة إلى فؤاد المعايرجي، فجَّر الأمر بعض صغار الموظفين فى جهاز الرقابة الإدارية، لم أستطع لم الموضوع، المسألة وراءها الشيوعيون الذين يسندون أبو المجد الحريرى هنا فى الإسكندرية وفرغلى البدرى فى بور سعيد، والرئيس السادات يريد تطهير أعوان مراكز القوى، فؤاد المعايرجى يعرف الكثير، إذا اعترف المعايرجى سوف ندان جميعا، وأنت معنا، سمعتنا سوف نصبح جميعا فى الطين ورقبتنا تحت سيف ثورة التصحيح، سيادة الرئيس السادات مهتم شخصيا بتطهير البلد من الشيوعيين، ولابد من حل".
- "ماذا ترى سيادتك؟"
- "المعايرجي".
- "ماذا؟"
- "يقتل!!".
تخفى الآن إن كنت تستطيع، تخفي، كل شيء ينهار حولك أم أن القلب مثقل بهم لا فكاك من قيده، المرارة فى الحلق والغرفة– الآن– من نحاس، يرن صوت الهلع فتردده الجدران وأنت من زجاج، الشباك منصوبة ولابد من التردى فى الفخ، المعايرجي"يقتل، من الذى سوف يقتله؟ أنت أم عيسى؟ عيسى ضرب أبو المجد فأصبحت أنت بطلا، ها أنت فأر فى مصيدة، فأين أنت يا رباب؟.
- "لابد من التخلص منه، سوف نقوم نحن أيضا بثورة لتصحيح أوضاعنا وهذا هو الشرط الوحيد لاستمرارنا سادة فى حكم هذا البلد و سوف أقولها لك على بلاطة لا بد من قتل فؤاد المعايرجي".
شربتها حلوة وعليك الآن بتجرع مرارتها، رباب: أين أنت؟
- "لن أنتظر منك الخطة، أنتظر أن تخبرنى بالتنفيذ، فقط بالتنفيذ".
أنت طلقة المدفع إلى صدر المعايرجى يا بطل، حشرة، أنت مجرد حشرة، وعيسى الذى استأجرته أنت قبل ذلك فى ضرب أبى المجد الحريرى هو البطل الحقيقى مع أنك أنت من قبض الثمن من مدير مكتب المحافظ، لن يقبل عيسى القيام بدور القاتل، لا، لن يقبل، لقد صار له شيئا يخاف عليه، وبوتيك ميامى لن يفقد صاحبه عيسى المتولي، كما أن تغيير العملة يدر ربحا يغرى بالبقاء فوق سطح الأرض والآن أنت وحدك ورقبة فؤاد المعايرجى تنتظر من يذبحها فى الطريق لخلاصه وخلاص معالى الوزير المحافظ، رباب: أين أنت؟.
- "لا أريد أى تردد يا بوز، أنت تعرف أن فؤاد المعايرجى جشع وضعيف أما أى إغراءات ويظلم الجميع، ومن كان مثله يقع فى مشاكل كثيرة، ربما يقتله شاب من الذين ظلمهم، لا أريد أى تردد، سوف تنفذ هذه المهمة، ليس الأمر أمري، إنه أكبر منى بكثير، لن تحصل على أى مقابل، لقد حصلت على كل أتعابك مقدما، تركناك تجمع الثروة، كما تريد، الآن، عليك تنفيذ هذه المهمة".
- "زوجة فؤاد المعايرجى شقيقة أهم رجل فى الأمن".
- "وماذا يعنى ذلك؟"
- "لن تسكت مدام رجاء لمقتل زوجها".
- "رجاء المعايرجى سافرت إلى سويسرا، هى فى جينيف حاليا تجرى التحليلات الطبية وتنتظر نعى زوجها".
- "وشقيقها؟"
- "يعرف كل شي!!".
-"أريد أن أوضح شيئا لمعاليك".
صرخ معالى الوزير:
- "لا أحتاج أية توضيحات منك، أستطيع أن أفعصك الآن كحشرة، لكنى أعتبرك دائما من رجالي، أمامك أسبوع واحد تنفذ فيه العملية وها أنا أحذرك والحذر كل الحذر وإلا هلكنا جميعا".
***
- "ألو، أهلا، انتظرتك كثيرا، لا، زوجى ليس موجودا، إنه مهموم منذ يومين، تملكه هم جمع الفلوس، البوز، اسمه البوز، نعم، صاحب برج رشدى ومكتب الأنفوشى للاستيراد والتصدير والتوكيلات التجارية، اسمعني، عندى سؤال واحد، ألا تعرفنى حقيقة؟ أنا رباب سالم، نعم، رباب سالم، ألا تذكر هذا الاسم؟ فى غرفة مكتبك فى الفراعنة، لم تمر مدة طويلة، ثلاث سنوات ليست كافية لأن تنسى، فى غرفة مكتبك، فوق السجادة، كان اسمه هشام الغلاييني، تذكرت؟ حسنا، نتقابل فى بيت سلوى حنفي، سوف تجدنى كما كنت، لقد انتظرتك طويلا!!".
***
الليل الأسود أسود من قرون الخروب ولابد من تنفيذ المهمة، مهمة القتل، قتل فؤاد المعايرجي، اشرب، بحر من الرهبة والارتعاش، فاشرب حتى الثمالة، عالم ينتهي، أكنت تدرى بأن الطريق وعرة؟ أكنت تدرى بأن العمر سلسلة من الوجع؟ بين أعمدة العمارات العالية كانت الخنزيرة تسعى، حشرة تحمل فى جوفها حشرة، صدى اصطفاق الريح يلحق بأذنه فلا يسمع إلا صفيرا حاداً، الصفير الحاد يزداد، كيف الخلاص؟ أى خلاص يا حشرة؟ عليك الليلة بالخمر وها هو الأمباسادير، ملجأه القديم، كما كانت غرزة أم فرحات، كما كان بار النسر الأبيض، كل العمر مضى بين أرصفه وغرز وملاهى وخمر ورباب سالم الليلة عدم، كل شيء الليلة عدم إلا رأس فؤاد المعايرجى التى تعنى حبل المشنقة أو الخلاص، نزل من السيارة، اتجه ناحية كاباريه الأمباسادور، فى الأيام الخوالى كان الأودن يستقبله– أيامها وهو يجلس أمام باب الملهى– هاشا باشا، أما الليلة فيستقبله رجل لا يعرفه، وقف لتحيته، رد التحية وتلقفه مدخل الملهى القديم، أراح نفسه المتعبة فوق كرسى البار العالى فيما راح فراج مدير الملهى يتفحصه وما أن تأكد من أنه هو حتى هتف:
- "المعلم البوز؟ يا ألف أهلا وسهلا".
قال:
- "صب لى كأسا وأرسل لى شدوي".
تلعثم فراج وهو يرد:
- "إنها ليست هنا، اختفت من الكورنيش كله".
***
وجدها فى السرير يحيط بها النور الخافت بالانكسار والخضوع، خلع ملابسه وارتدى بيجامته وتمدد إلى جوار رباب وهو يتمتم:
- "الرحمة يا رب الرحمة".
مدت يدها واحتضنته:
- "ماذا بك؟ أراك مهموما هذه الأيام، أنا زوجتك ومن حقى أن أعرف".
-"لاشيء، فقط أريد أن أنام".
- "تشرب الخمر بعيدا عني؟ لقد انتظرتك وها أنت تعود لي".
مدت يدها مرة ثانية تداعب جسده الممدد، قبلته فاحتضنها بكل قوة، حاول أن يحتوى كل جسدها لكن العجز كان قد حل:
- "رباب، إنى لا أستطيع".
- "حاول، أنا أشتاق إليك كثيرا، وإن شئت البداية هادئة فدعنى أقبلك أولا".
لا، يحلم الآن، يا لهذا التعب، أكنت تعرف أنك وحيد وأن العصافير لا تعترض الريح وسميحة تبكي، أتبادلها– الآن– دمعك بدمعها؟ كان لابد من الرحيل فى ضباب الفجر كما اللص، عندما شقَّت ثوبها انتفض الجسد يعلن عن عجزه وهو فى أحضانها فى ليلة الدخلة: "أخرج من بيتي". أكنت تعلم أن النجوم تبكي؟ الآن ينهار كل شيء ولا مناص من التردي– همست رباب:
- "لماذا تبكى يا حبيبي؟"
سميحة سوف أرحل، حاول سوف تنجح، قطعت تنهدت رباب عليه الذكرى وطردت وجه سميحة من خيالها وسمعها تقول:
- "لقد تغيرت، ماذا بك يا حبيبي؟"
- "رباب، إنى لا أستطيع".
- "حاول".
انقلبت على بطنها وفحّت:
- "حاول من أجلي".
قال:
- "لم تعد بى قوة ولا رغبة فى شيء، فقط أريد أن أنام".
انسحبت من جواره وتركته لعجزه وهى تهمس:
- "لا عليك، سوف نذهب غدا إلى الطبيب".
لم ينتصب؟ لا يهم، فالوجع يفتح أبوابه وحليمة قد واراها التراب ورأس فؤاد المعايرجى تنتظر القطع ومعالى الوزير ينتظر الخبر بالتنفيذ، ولا مهرب، حقا لا مهرب، تمر أيامه الآن شريطا من العذاب والمتعة، هكذا يا سميحة، هذه هى النهاية، النار هى نهاية جنة الحياة وبداية جحيم الموت، نار غدرى التى أكلت قلبك يا سميحة لا تقل عن النار فى قلبى وروحي، أريد أن أنام لكن النوم عصى، حقا النون يعصى عيوني، لكنى مصمم على أن أعيش، لن يكون مصيرك هو العدم، فانهض يا رجل، انهض يا بوز وإلا فإن نهايتك سوف تجرى فى أذيالك وأنت مازلت فى عز شبابك، ضرب الغطاء من فوق جسده بقدميه ونهض واقفا وسط الغرفة، أضاء النور وارتدى ملابسه وتأكد من أن حافظته فى جيبه، خرج من الغرفة، قابلته رباب فى الريسيبشن:
- "نحن فى الفجر يا حبيبي".
رد:
- "أريد أن أشم الهواء".
استسلمت لنزوته وبررت لنفسها قلقه بأنه لم يستطع مضاجعتها، وأنها مجرد حالة عارضة وسوف تزول، فى السيارة أشعل سيجارة معمرة بالحشيش وانطلق على طريق الكورنيش، وصل إلى ملاحات المكس على أطراف إسكندرية، أوقف السيارة على جانب الطريق وفتح النافذة مستنشقا هواء البحر الطازج وداعبه ملاك النوم بجناحيه فاستسلم له.
***
تسلل شعاع الشمس اليومى الذى لابد منه من نافذة غرفة الأودن، وما أن لمحه حتى تسلل ناهضا من الفراش، فتح باب الشقة وصعد إلى جوهرة زوجة البوز التى هجرها وبقى هو ليخدمها، وجدها نائمة فأيقظها:
-جوهرة، استيقظى ودعينا نفطر سويا".
نهضت منهكة بفعل المحذر والزمن وهجر الزوج الذى تعودت على هجره، وها هو الأودن الوفى الذى يرعاها يعد لها الفطور، تناولا الإفطار معا وودعها الأودن وهبط السلم قاصدا مكتب سيده البوز فى الأنفوشي، فتح باب المكتب ونظف الطرقة وغسل الأكواب فى المطبخ، سمع صوت معلمه:
- "صباح الخير".
هب هشام مدير مكتب البوز واقفا لاستقبال البوز كما فرد الأودن كفه لمصافحة ولى نعمته – قال:
- "كيف حالكما؟"
قال هشام:
- "الحمد لله، خيرك يغطينا جميعا يا بوز بك".
ورد الأودن:
- "الحمد لله، لقد بدرت اليوم يا معلمي".
دخل غرفته ودخل عليه الأودن بقهوة الصباح – قال البوز:
- "ذهبت الليلة الماضية إلى الأمباسادور".
فتح الأودن فمه غير مصدق – وقال:
- "أعوز بالله، لعنه الله عليه وعلى كل كاباريهات الكورنيش، أيام كلها كانت سوداء".
نظر البوز فى السقف قائلا:
- "الحيرة تجتاحنى يا أودن".
قال الأودن:
- "اسمعنى جيدا يا معلم بوز، دعنى أكون صريحا معك يا معلم، لقد مضى هذا الزمن، انتهى، هل تعرف؟ مضى وانتهى هذا الزمن ولن يعود، إنها إرادة الله ولا دخل لنا فى إرادته".
- "إذن فلن نذهب، هات لى فنجان قهوة وسيَّح فيه فص أفيون".
***
جلس الأودن إلى جوار معلمه فى الخنزيرة، وصلا إلى جليم، هذه فيلا المعايرجى – قال البوز:
- "هل ترى هذه الفيلا يا أودن؟"
- "أراها يا معلمي".
- "احفظ فى مخك شكلها عن ظهر قلب، فسوف نعود لها فى المساء".
لم يفهم الأودن شيئا، لكنه عندما جلس أمام بوتيك ميامى عند عيسى، راح يجهد ذهنه فى تذكر منظر فيلا المعايرجى التى تحيط بها الأشجار من كل ناحية، قدم له عيسى زجاجة بيرة ساقعة، جرع بقا وتابع معلمه وهو يجرع زجاجة البيرة دفعه واحدة وما أن أنزل البوز الزجاجة فارغة من على فمه حتى سأله:
- "هل تريد أن تشترى الفيلا يا معلمي؟"
طلب منه عدم الحديث فى هذا الأمر، أخذ البوز ما يخصه من إيراد البوتيك من عيسى، وككلب أمين تبعه الأودن وتحركت بهما الخنزيرة.
***
الأودن ضم جوهرة زوجة معلمه بين أحضانه:
- "أفيقى أيتها التعسة، أفيقى لحظة، الآن أنا ذاهب وقد لا أعود، أفيقى يا جوهرة وألا تركتك، على أية حال سوف أتركك يوما ما، لم يكن لك إلا أنا بعد أن هجرك البوز، كما أنك كنت لى نعم الصحبة ونعم الأنيس، أفيقى يا جوهرة".
لم تفق، أبدا لم تفق مطلقا من سطوة المخدر، هكذا سوف تقضى بقية عمرها إلى أن يأذن رب العباد، وليس عليك الآن يا أودن إلا أن تذهب إليه فهو ينتظرك، البوز فى انتظارك حسب الموعد المحدد، بالأمس قضيتما الوقت تدوران حول فيلا المعايرجي، أنا لا أعرفه، لكن على أن أقتله، اهرب يا أودن الآن؟ اهرب؟ أين؟ ولماذا؟ كان البوز داخل سيارته ينتظر، فتح له باب السيارة فدخل، هذه أول خطوة فى طريق قد لا يعود منها – همس البوز:
- "لن أنسى لك هذا ما حييت".
- "خيرك سابق يا معلمى ولا حياة لى بعيدا عنك، أنا لا أخشى شيئا إلا الخدم".
- "فى مثل هذه الساعة يكون الجميع نياما".
- "ليسترها الله معنا".
جذب زجاجة الويسكى من تابلوه الخنزيرة وفتح غطاءها وجرع بقا كبيرا احتفظ به بين شدقيه للحظات ثم دفعه فى زوره مرة واحدة:
- "نحن فى حاجة إلى رعاية الشيطان يا أودن".
- "سوف أرجع إلى درنكة يا معلمى بعد شهر، يسقط الحكم عنى بعد شهر واحد".
- "سوف أعطيك ما يكفيك بقية عمرك".
ناوله لفة من الفلوس:
- "خمسة آلاف جنيه تستطيع أن تشترى بها دارا وأرضا فى درنكة".
تردد الأودن:
- "ليس لى إلا خدمة من آوانى وخبأنى وأطعمني".
ربط حزامه فوق لفة النقود وثبت نظره فى الزجاج الأمامى للسيارة متابعا تدافع أعمدة النور التى راحت تفر إلى الخلف: قبل أن يصل إلى المستشفى الصغير تغير المنظر فجأة وصار دربا فى الجبل، تابع نفسه وهو يطلب من الأحجار أن تخفيه، الدنيا ظلام، تاه المنظر المستحيل، وحل محله شارع طويل فى نهايته باب، انفتح الباب قبل أن يطرقه، لو دخل إلى قاعة الفرن فسوف يسمع شخير ابنه مصطفى: بدلت الأيام جلدها يا أودن، وتبدل جلدك واللقاء سوف يكون فى درنكه، حمل ابنه على كتفه، سحب امرأته بيده، المرأة تحمل ابنته البنت عائشة على كتفها والبنت لا تكف عن البكاء، بكى، سمع صوت البوز:
- "لا تبك يا أودن، سوف ينتهى كل شيء على خير".
طرقات كابوسية، حاول أن يطرد خيال ابنه مصطفى من ذاكرته ونظر للبوز وقال:
- "دعنا نذهب الآن وننهى الأمر".
رد عليه البوز:
- "نحن فى الطريق فلا تتعجل".
قرب نهاية الدرب الطويل اختفت– زوجته– أم مصطفى والطفلان، نظر خلفه لم يكن هناك إلا الفراغ، جرى فى دروب الجبل، كان القمر هناك، أمسك بالمقروطة، سدد فوهتها تجاه الأشباح الواقفة وقال:
- "هل الجيزة بعيدة عن هنا".
رد البوز:
- "هل فقدت عقلك، أية جيزة يا أودون؟ نحن فى جليم إسكندرية".
وجد نفسه فى محطة السكة الحديد، خرج من باب المحطة وعندما لمح وجه المخبر وسط مطارديه نظر خلفه فلم يجد إلا الفراغ، لم يشك لحظة أنهم لن يدركوه، تأكد من أنهم سوف يقبضون عليه فى النهاية– قال:
- "أريد أن أقبل ابني".
أطفأ البوز سيجارته وقال:
- "سوف ترجع إليه بالسلامة".
قال:
- "متى نصل؟"
رد البوز:
- "هذه هى الفيلا، خذ هذا القضيب الحديدي".
قال:
- "لا، سوف نخنقه".
تسلقا سور الفيلا وها هى النافذة الزجاجية فى الطابق الأرضي، أمسك قطعة حصى وضرب بها زجاج النافذة بالقرب من مقبضها، مد يده وفتح مقبض النافذة وفى خفة كانا بالداخل، وكما اتفق معه البوز فقد صعد خلفه السلم، سارا فى طرقة نصف مضيئة وسمعا هسة الريح تحف بالأشجار، أشار البوز بإصبعه إلى الباب المغلق – وقال:
- "تأكد أنه نائم".
أدار مقبض الباب برفق، انفتح الباب وعندما دخلا إلى الغرفة أغلقاها من الداخل وفاجأهما الصوت:-"من؟" لم يقل المعايرجى غير هذه الكلمة فقد قفز عليه الأودن وطبق على رقبته وصرخ فى البوز من حنجرته:- "ساعدنى يا بن الكلب".
ألقى البوز بنفسه فوق المعايرجى فيما راح الأودن يضغط على العنق وفؤاد المعايرجى يقاوم، عندما قال لهم أريد أن أقبل ابني، لم يوافقوا ووضعوا القيد فى يديه وضجت قاعة المحكمة بالتصفيق، نطق القاضى بالإعدام، لكن يداه كانتا قد تصلبتا على رقبة المعايرجى ولم يفطن الأودن إلى أنه مات إلا بعد أن جذبه البوز وهو يهمس:
- "هيا بنا يا أودن، لقد قتلته".
أشعل عودا من الثقاب وأدناه من وجه فؤاد المعايرجى الذى شرب اللون الأزرق واللون الأسود مختلطا بلون جلده الأبيض، أحنى رأسه وألصقه بصدره عند القلب وتأكد أنه قد فارق الحياة إلى الأبد، وعندما انطلقت بهما السيارة قال الأودن:
- "أخرج بنا خارج هذه المدينة، أريد أن أشم الهواء".
وعلى صخرة المكس جلسا والبحر يموج تحت أقدامها فيصفع الصخور فى قوة وتتابع وإصرار، نظر الأودن فى الأفق: رأى البحر لا نهاية له، وقال البوز:
- "سوف أحضر سجائرى من الخنزيرة".
لم يلتفت إليه الأودن وراحت نظراته تحاول اختراق الظلمة وأعماق البحر الكبير، وجد نفسه فى ساحة متسعة وشجرة وحيدة فى منتصفها، زوجته على كتفها ابنته عائشة إلى جوار الشجرة وكان الولد مصطفى هناك أيضا، وتدلى من الشجرة حبل غليظ، دفعه المخبر باتجاه الحبل ولفه حول رقبته وهوى قضيب الحديد فوق رأسه وتفجر دمه – صرخ:
- "لا أريد أن أموت".
ارتفعت يد البوز مرة ثانية وهوى بها– للمرة الثانية – من الخلف على رأس الأودن الذى فح:
- "لماذا يا بوز الكلب؟"
لم ينطق الأودن مطلقا بعد ذلك، وحتى يتأكد البوز من أن شريكه فى قتل فؤاد المعايرجى قد تقيأ روحه فقد راح ينهال على رأسه بقضيب الحديد فى يده حتى فتته والتصق المخ بالصخرة العتيقة، فك الحزام حول وسطه، باسم الله الرحمن الرحيم، سحب لفة الفلوس بالخمسة آلاف جنيه من حول وسط الأودن، مالك يوم الدين، لن يراه أحد بعد الآن، وليس هناك دليل واحد ضدي، على الرجل الحكيم ألا يترك دليلا واحدا خلفه، ترك فؤاد المعايرجى الدليل خلفه فَقُتِل، إياك نعبد وإياك نستعين، اسمع يا بوز ومائة جنيه للأودن، والأودن مات، المبلغ كله من حقك، أريدك رجلا، غولا، هذا هو عالم الغيلان، أهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، بعد قراءة الفاتحة جذبه من قدميه وألقى به فى البحر المالح الكبير، وجلس يبكي، هذا وقت ليس للبكاء، عليك الابتعاد من هنا، وقف، تحرك، راح يلملم أعضاءه، وتلملم الإسكندرية أعضاءها: تعطى قلبها للريح وفخذيها للبحر، عيناها شاهدتان على ما تأتى به الأيام، تلملم أعضاءها الإسكندرية فلا الحزن يترك الشوارع ولا خيول الريح تكف عن الرمح فى الطرقات، ويعربد الماء نشوان، تغفو عتمة البحر وتأوى الحشرات إلى حضن بيوتها فتمد ذراعيها عند رأس التين وقدميها عند نهاية العمران: رأسها عار، مغسولة ضفائرها بمصهور الفضة المذاب فى البحر الكبير، تنادى أبناءها أن ادخلوا فى رحمى فسوف يلفظكم الصباح حشرات تسعى على رزقها، تنادى وهى مصلوبة على سياج الأفق، ترتج فى عينيها ذكرى مذابح الحكام والثوّار، تنبت آلاف الأعين على اتساع جسدها المستباح وترتمى تحت قدميها رطوبة المساء، ترتمى نهاية المساء، بين مقلتيها غريبة ترتمي، وها هو المطر العاشق الأبدى يتمسح بثوبها الذى يتسع للعشاق فى كل الفصول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.