تكريم الطلاب الفائزين في مسابقة القرآن الكريم بجامعة قناة السويس    المهندسين تبحث في الإسكندرية عن توافق جماعي على لائحة جديدة لمزاولة المهنة    رئيس جامعة بنها يفتتح معرض الزهور الأول احتفالا بأعياد الربيع    رئيس جامعة بني سويف يرأس اجتماع مديري الكليات    وزير المالية: نتطلع للاستفادة من إمكانيات وقدرات مؤسسة «مورجان ستانلي»    شركة إير فرانس-كيه ال ام للطيران تتكبد خسائر خلال الربع الأول    بعد تراجع الأوفر برايس .. سعر شيري تيجو 8 العائلية 2024 الجديدة    الدفاع المدني في غزة: 10 آلاف مفقود تحت أنقاض البنايات منذ العدوان    إصابة 4 أشخاص بعملية طعن في لندن    مصدر أمني ردا على ادعاءات الجماعة الإرهابية عن سجن القناطر: تم إلغاؤه ولا يوجد به نزلاء    18 مليون جنيه حصيلة الاتجار غير المشروع بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    هل وجود سيدنا موسى في مصر حقيقة أم جدل؟.. "الافتاء" ترد علي زاهي حواس    الموضوع وصل القضاء.. محمد أبو بكر يرد على ميار الببلاوي: "أنا مش تيس"    معرض أبو ظبي للكتاب.. ريم بسيوني ل الشروق: سعيدة بتكريمي.. والجائزة تفرض على الكاتب مسئولية كبيرة    رئيس اللجنة العلمية لمكافحة كورنا يحسم الجدل بشأن حدوث جلطات بعد تلقي اللقاح    الصحة: الانتهاء من مراجعة المناهج الخاصة بمدارس التمريض بعد تطويرها    الصحف الكويتية: زيارة أمير الكويت للقاهرة تتويجا للعلاقات الأخوية والتاريخية    مصادر: من المتوقع أن ترد حماس على مقترح صفقة التبادل مساء الغد    خبير دولي يؤكد أهمية زيارة رئيس مجلس الرئاسة في البوسنة والهرسك إلى مصر    بسبب ثوران بركان جبل روانج.. إجلاء آلاف الأشخاص وإغلاق مطار دولى بإندونيسيا    البنتاجون يكشف عن تكلفة بناء الرصيف المؤقت قبالة ساحل غزة    مواعيد مباريات الثلاثاء 30 إبريل - ريال مدريد ضد بايرن.. وكلاسيكو السعودية    موعد مباراة الزمالك القادمة ضد البنك الأهلى فى الدورى والقناة الناقلة    عاجل.. تشافي يعطي لابورتا الضوء الأخضر لعرض ثنائي برشلونة على الأندية السعودية    افتتاح المعرض السنوي لطلاب مدارس التعليم الفني بالقاهرة تحت شعار "ابدع واصنع"    "صدى البلد" يحاور وزير العمل.. 8 مفاجآت قوية بشأن الأجور وأصول اتحاد عمال مصر وقانون العمل    تأجيل محاكمة المتهمين بخطف شاب وإجباره على توقيع وصلات أمانة    قرار قضائي عاجل ضد المتهم المتسبب في وفاة تسنيم بسطاوي طبيبة التجمع    طلاب النقل الثانوى الأزهرى يؤدون امتحانات التفسير والفلسفة والأحياء اليوم    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الثلاثاء 30 أبريل 2024    الزراعة: زيادة إنتاجية فدان القمح إلى 26 أردبا بالأقصر .. تفاصيل    وزير الإسكان: نعمل على الاستثمار في العامل البشري والكوادر الشبابية    الليلة.. حفل ختام الدورة العاشرة من مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    بروتوكول تعاون بين كلية الصيدلة وهيئة الدواء المصرية في مجالات خدمة المجتمع    اليوم.. آخر موعد لتلقي طلبات الاشتراك في مشروع العلاج بنقابة المحامين    "أسترازينيكا" تعترف: آثار جانبية قد تكون مميتة للقاح فيروس كورونا    طريقة عمل السجق بالبطاطس بمكونات سهلة وطعم شهى    إمام: شعبية الأهلي والزمالك متساوية..ومحمد صلاح أسطورة مصر الوحيدة    اليوم.. استئناف فتاة على حكم رفض إثبات نسب طفلها للاعب كرة شهير    مساعد وزير الصحة: قطعنا شوطًا كبيرًا في تنفيذ آليات مواجهة تحديات الشراكة مع القطاع الخاص    ظهور خاص لزوجة خالد عليش والأخير يعلق: اللهم ارزقني الذرية الصالحة    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    مواعيد أهم مباريات اليوم الثلاثاء 30- 4- 2024 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    نيويورك تايمز: إسرائيل خفضت عدد الرهائن الذين تريد حركة حماس إطلاق سراحهم    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    تصريح زاهي حواس عن سيدنا موسى وبني إسرائيل.. سعد الدين الهلالي: الرجل صادق في قوله    «المقاطعة تنجح».. محمد غريب: سعر السمك انخفض 10% ببورسعيد (فيديو)    عفت نصار: أتمنى عودة هاني أبو ريدة لرئاسة اتحاد الكرة    ميدو: عامر حسين ب «يطلع لسانه» للجميع.. وعلى المسؤولين مطالبته بالصمت    حشيش وشابو.. السجن 10 سنوات لعامل بتهمة الاتجار بالمواد المخدرة في سوهاج    الغربية تعلن جاهزية المتنزهات والحدائق العامة لاستقبال المواطنين خلال احتفالات شم النسيم    إيهاب جلال يعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة الأهلي    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    أخبار 24 ساعة.. وزير التموين: توريد 900 ألف طن قمح محلى حتى الآن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وئام عبد الغفار :الرحلة
نشر في البديل يوم 06 - 01 - 2011

أنها تخرج من بين الأمواج.. تمرح فوق صفحة ماء البحر ..لم أصدق عيناي .. أتكون هي .. حورية البحر .. الأسطورة التي يحكي عنها الناس من حولي .. هل تتحقق ..عشت أتخيل كيف تكون ..رسمها خيالي ..أنها أمامي .. حقيقة واقعة.. ها هي تظهر وتختفي .. بحق السماء ..لا أصدق.. تنظر اتجاهي .. تبتسم ..هل أصابني مس من الجن..هل أستطيع أن أناديها..ها أنا أشير بيدي..أقول بأعلى صوتي: يا..حورية..أنت..أنت..يا عروس البحر..نعم..أنت.. لا ترد .. منذ أدركت الحلم وأنا أتمني رؤيتك ..أعود وأنادي.. يا حورية البحر..لا تسمع .. لعلها صماء .. أريد أن أتأكد من سلامة بصري .. لعل أصابني خلل في عيني .. أو فوقها غمامة .. لعل جفوني مازالت مغلقة .. لكني أراها واقع متحرك أمامي..أراها.. كلانا من عالم مختلف.. أين هي.. لقد اختفت.. الآن تحت سطح الماء..سمعت البعض يقول أن هناك سمكة لها زعانف ووجه وصدر بشري ..لا أعتقد .. وكيف تتنفس تحت الماء بأنفها البشرية..أنا متلهف للتواصل معها ..أتحدث معها .. تفهمني .. ولكن كيف تعرف لغتي.. لهجتي التي أتحدث بها.. أنني أتصورها جميلة أجمل من نساء العالمين.. رأيتها الآن .. عيناها واسعة.. رموشها طويلة ومميزة .. قوامها رشيق .. شعرها مثل شعر الخيل ولكن بلون خيوط الذهب .. اختفت .. سوف أنتظر هنا حتى تعود .. مرت ساعات .. تأخرت .. عادت .. برهة.. أنظر .. عادت.. أتخيلها تشير إلي بأصابعها الكهرمانية الناصعة!
..أنها ذكية.. رائحتها تهل علي.. كرائحة عطر زكية ..كرائحة العشب الندي في الغابة البكر في صباح ربيعي.. رائحة تخرج من بين روائح البحر النافذة . .بعضنا يعشق رائحة اليود البحرية وأعشابه وطحالبه وبعضنا الأخر لا يطيق الرائحة .. أنها الرائحة التي تعود عليها أهل جزيرتي .. جزيرة السلاحف..نستنشقها ليل نهار.. تمهلي يا نفس .. عادت .. أنها تقبل علي .. قادمة.. أري في عيناها شعاع أزرق بلون البحر يصدر كالضوء .. لعله دليل ذكائها .. لحظة .. لقد ذهبت .. اختفت من أمامي .. سوف أتربص بها .. أراقبها .. حتى نلتقي ونتصافح .
هنا.. في فصل الخريف .. حيث يعتدل الطقس علي مدار العام ..علي شاطئ جزيرتنا .. ترقد هذه السلاحف البحرية الثقيلة ..الضخمة.. ترقب البحر مثلي .. تمرح فوق الماء وتتغذي فالغذاء لدينا وفير ..وتعود لمساكنها في الرمال وهي أمانة مطمئنة .. أحيانا أجدها كائنات خاملة.. تختبئ في درعها الصلب .. مسكنها الرباني الذي تحمله فوق أكتافها سعيدة وهادئة.. أنها مخلوقات وديعة وصبورة.. تشاركني الحياة .. وأنا أدركت معها الحياة.. وفي الواقع .. كلانا لا يفرق كثيرا عن الأخر.. فكلانا مسالم ورومانسي وكسول.. وما اكتشفته مؤخرا أنني رغم سنوات عمري العديدة فمازلت بلا مهارة ولا خبرة .. ربما صقلتني الأيام .. ولكن الحظ لم يحالفني .. لم أنال قدرا من التعليم النظامي مثل أبناء هذا الجيل .. تجاوز عمري العقد الثالث بسنوات وأنا كما أنا ليس لي بصمة علي حياتي في الجزيرة .. مجرد متأمل .. هكذا أنا صادق مع نفسي وأعرف حقيقتي.. ولكن من المفارقات الغريبة والمضحكة لي..أنهم يطلقون علي حكيم الجزيرة..هكذا يطلقون ..جزيرتنا تقع هنا .. جنوب شرق بحر العرب.. في مدخل المحيط الهندي .. لا تتجاوز مساحتها عشرة كيلو مترات .. طبيعتها بكر والأسماك لدينا وفيرة وأمانة تعيش في هدوء بلا إزعاج أو خوف من الصيادين .. مشكلتي أن أبي رحل شابا.. وتركني منذ سنوات بعيدة لا أعرف عددها .. كنت مازلت طفلا .. رحل إلي الشاطئ الأخر مثل كل من عاش هنا .. ولكن رحل وترك سفينته .. وتركني أنا وأمي وشقيقتي .. ترك لنا السفينة كمصدر دخل .. ظن .. أنني قد أصبح يوما ربان سفينة .. لم يعتقد أني قد أكون جبانا وأخشي البحر وأعكف متأملا فوق رماله.. مشكلتي أني لا أعرف كيف أقود سفينة .. فقيادتها تتطلب تدريب وبراعة وحسن تصرف..خذلتني نفسي ولم أستطع أن أجد فرصة من اجل أن أبحر مع البحارة..أجلس هنا بجوار سلاحفي البحرية أراقب قائدي السفن وهم يتحركون من حولي..أقطن مع أمي وأختي الوحيدة في كوخ فقير بالقرب من الشاطئ..مهنتي هي نشر الأسماك علي الحبال و تجفيفها.. ثم بيعها للتجار مجففة ونظيفة.. وتصدر للمدن المحيطة من حولنا.. وبجوار مناشر الأسماك.. أجلس علي الشاطئ أتأمل هذا المارد العملاق..البحر.. فهو يحيطنا من كل اتجاه.. وهو معشوقي.. تعودت التسبيح معه لله وذكره مع كل سمكة أنشرها فوق الحبال من أجل أن تجف .. الشمس لدينا ساطعة حتى أصبح قوامي جاف مثل أسماكي رغم أنا قامتي طويلة.. وبشرتي داكنة سمراء وعظامي قوية .. وبخلاف سفينتي القديمة لا أملك إلا ثوب واحد للمناسبات.. وردائي في الجزيرة هو الإزار والقميص.. فهذا الرداء يذكرني بأهلنا في الحج.. وأشعر فيه بالراحة والأمان ..
- ما يشغلني هو ما حدث بيني وبين أمي هذا الأسبوع.. عندما طلبت مني أن أضع نهاية لسلبيتي في الحياة .. أن أسعي .. أعمل .. أجتهد .. وأتزوج .. وأن أقود سفينة أبي.
- قالت : لابد أن تخرج وتتعلم كيف تقود سفينة أبيك قبل أن أرحل بها أنا إلي الشاطئ الأخر.. لأنك خذلتني.
- قلت في داخلي .. ولكني أشعر بأني مكبل بالقيود .. كسول مثل سلاحفي ..ولذلك ورغم كل هذا العمر لم أفكر مثل الشباب في الارتباط والزواج .. ولا رسالة لي في الحياة ولا امتداد .. وأختي لم يتقدم لها أحد لأننا فقراء وضعفاء..
- ثم قلت لأمي :ولكن أنت تعلمي أن المهور لدينا غالية ولا ذنب لي في عدم قيادتي السفينة.. أنا أخشي البحر ولم أتعلم أن أخوض فيه..
- ردت بحدة : لابد يوما أن ترحل إلي الشاطئ الأخر وترتاد البحر.. لا أحد يدفن بهذه الجزيرة .. ليس بها مقابر .. مما تخشي .. من الموت .. جزيرتنا صغيرة ومعرضة للغرق في أي لحظة.. حياتنا بلا طموح.. أليس هذا موت.. استطردت ..أنكم كسالي يا شعب هذه الجزيرة ولا تستغلون خيراتها..أنك يا ولدي تعيش علي أبسط مهنة.. تجفيف السمك.. ليست مهنة للرجال..تصلح لأختك.. فنشر الأسماك كنشر الملابس ..لا يحتاج لعلم أو موهبة..أذهب يا ولدي فالسفينة تحتاج لربان .. لديك القدرة .. فأنت حكيم الجزيرة .. لا تجعلني أجلب لها من يقودها ويأخذ ريعها ودخلها.. منذ غادر أبيك وهي في الماء بلا عمل.. أذهب وأبحث كيف تصون ماكينات السفينة وراجع قاربها وأصلح ما أتلف الزمان .
منذ ما دار بيني وبين أمي من حديث وأنا شارد .. وأثناء شرودي ومراقبتي .. عادت .. هاهي قد اقتربت مني بلا مقدمات .. أنها هي حورية البحر.. أنظروا أنها تضحك .. لا.. أقصد تبتسم.. تخاطبني .. هاهي تتكلم ..
- تقول : صباح الخير سيدي .. رفعت رأسي نحوها و نظرت مندهشا .. استطردت: نعم أخاطبك .. أنت .. سيدي
- قلت لها متلعثما : من أنت ؟
- ردت : لا تخشي مني .. لا تخاف .. لست شريرة ..
- قلت مجاملا بخوف : أكيد .. أكيد.. ولكن من أين خرجت..
- ردت ضاحكة : ..من هنا .. أشارت إلي البحر..
- سألتها : أنت جنية.. ثم استدركت مصححا .. أقصد امرأة من عالم الجن ..
- ردت بتأمل لوجهي: أنا..أميرة هذا المحيط..هذا البحر الكبير..استطردت بنعومة وصوت حالم رقيق قائلة:أراقبك في الخفاء منذ زمن .. أراك تنظر في حيرة .. تراقب مملكتي ..أشعر بحاجتك لمشورتي ..أنت قلق علي حاضرك وتحلم بمستقبلك .. أنا مغرمة بتأملك سيدي .. أنت رجل حالم .. ولكني مشفقة عليك.. واضح لي .. أنك لم تفطم بعد .. لم تترك ثدي أمك .. رغم عمرك وسنواتك العديدة ..
- عندها شعرت برجفة .. قشعريرة .. استعذت بالله منها .. قلت داخلي..أكيد أنها شيطان ..
- نظرت لي وضحكت وقبل أن أرد استطردت قائلة : لا تقاطعني حتى أفصح لك .. أعرف أنك محبط أيها الإنسي .. رغم جمال البحر والحلم الوردي..
- قاطعتها بإصرار وأنا مندهش.. كيف عرفتي ما يدور بداخلي ؟ .. أكرر ..من المؤكد.. أنك جنية ..أقصد من الجان ..
- ضحكت وردت : تصورني كيفما شئت ولكني لست شيطان .. ثم قالت بتنهيدة : لماذا تشغلك كينونتي ؟.. لماذا مهموم أنت سيدي.. بمن أنا ومن أكون ؟ .. في جميع الحالات أنا امرأة .. شفافة .. ناعمة ولست مؤذية.. أقترح ..أن تعتبرني .. باعث من داخلك.. من روحك..من ضميرك..أميرة بحارك..بحرك أنت.. وتوقفت عن القول وهي تقول..لن أزيد..
- منذ ذلك الوقت شعرت بالطمأنينة تبثها داخلي .. أنها بثت معها شعور بالحب .. خفق قلبي لها .. شعرت برقتها وروحها
- أومأت برأسي مشيرا لها بالقرب وكأنها سحرتني.. اقتربت.. سألتها عما أفعل .. وقد أحبطت كما قالت..
- فردت : سوف أساعدك في إصلاح وقيادة السفينة..
- فقلت مندهشا : هل أستطيع أن أقودها بعد هذا العمر ..
ردت مبتسمة .. خلقنا لكي نعمل يا حكيم الجزيرة .. وأنت قادر .. داخلك طاقة عطاء .. أنفض عنك الوهن والخوف وتعالي معي أعلمك كيف تجوب البحر .. لن تغرق ولن تموت إلا بأمر ربك .. لحظتها شعرت بالرهبة والخوف .. فأنا أخشي البحر .. لدي شعور بالغرق بمجرد قيادة السفينة .. لست قادر علي توجيه المحركات .. ولكنها ظلت تحفزني .. حتى جعلتني أقول في نفسي .. لابد أن أنفض عني هذا الخوف ..وأتساءل .. ماذا بعد أن بلغت هذا العمر؟ حقا .. أصابني اليأس بسبب خوفي .. لابد أن أكون أفضل من ذلك .. نظرت حولي .. كانت تقف بعيدا .. ناديتها .. قلت لها بأعلى صوتي .. كلي أمل في تغيير ذاتي .. وفي نفسي عدت أردد قائلا .. لو استطعت فسوف أسعد أمي وشقيقتي ..
- بعدها سمعت صوتها يأتي من قريب .. ردت وكأنها تسمع ما بداخلي : بل سوف يسعد بك كل أهل جزيرتك .استطردت .. تعالي نصلح ما أفسد الزمن ..- وفعلا بذلت الجهد وقاومت الكسل وعلي مدار شهور استطعت أن أبدل وأصلح ما أخذ الزمن .. ولولا مساعدة بعض عمال الجزيرة المخلصين .. وأنا في داخلي صراع بين الخوف والرهبة وبين الرغبة والأمل ..ولكن كان هناك طاقة نور و اقبال علي العمل ..ولدي رغبة أن تجمعنا السفينة ونطوف البحار معا أنا وحوريتي .. أعانقها بروحي وتعانقني بروحها ونحن نجوب البحار فوق الأمواج العاتية .. حتى نصل الشاطئ الأخر ..حيث رحل أبي .. نرحل معا صحبة..
- كانت تراقبني من بعيد .. تسدي لي النصح فأسمعه داخلي .. ولكن كنت أنا الذي أعمل وهي ونيس وأنيس .. كنت أشعر بأنها ليست غريبة وأنها تعرفني منذ الطفولة.. أنها توأمي .. وأنها الحافز والشرارة التي أوقدت موقدي.. حتى انتهيت من الإصلاح .
- وخرجت للشاطئ وناديتها قبل بزوغ الشمس لتصحبني في رحلتي عندما أستعد .. وفي نيتي أن أودع أمي وشقيقتي ..
فأنا أخشي عليهم من الغرق معي إذا فشلت رحلتي .. وأريد أن نرحل معا وحيدان ومعنا بضائع أبيعها في بلد الوصول
و حتى أرتزق منها.. وكان الخوف الشديد قد غمرني من خوض الرحلة والتجربة و المغامرة غير المحسوبة..
وعندما ألتقينا هزمت خوفي.. وشجعتني .. و اقترحت علي أن أصحب معي أمي وأختي حتى لا أنشغل بهم وأقنعتني أن
أطرد هواجسي وخوفي عليهم من الغرق معي .. وأن يكون معنا مساعدا علي دراية ومهارة يساعدني في عملي الجديد
.. وحتى يكون لي بمثابة صمام أمان .. أستعين به في إدارة الماكينات وتحريك السفينة ودليل للتموين و الإغاثة
من غدر البحر الذي أجهله .. فأنا علي غير علم بطريقة القيادة .. وللسفن مهارات وفنون وعلوم .. بعدها اهتديت إلي بحار عجوز .. هجر البحر منذ سنين ومعروف عنه براعته وطيبته وحكمته.. وقد شعرت بالطمأنينة بمجرد أن ذهبت إليه وفزت بموافقته وعزمت لحظتها علي الرحيل بعد أن طلبت منه أن يكون مساعدي نظير أجر أدفعه له بعد أن أبيع بضاعتي من الأسماك المجففة عندما أصل للشاطئ الأخر .. فأبدي ارتياحه قائلا : سيدي لا مانع أن أساعدك .. ولكني لن أعود معك ..سوف تصطحبني حتى الشاطئ الأخر .. وأتركك لأرحل .. وعليك أن تعود وحيدا بعد أن تدفع لي الأجر المجزي الذي وعدتني عن عملي معك ..
اكتملت التجهيزات .. وحان موعد بدأ الرحلة .. السفر .. بعدها أستعد الجميع للرحيل بعد أن رجعت إلي أمي وتوسلت لها بأن تصحبني في رحلتي حتى يزول خوفي ورهبتي .. وأقنعتها بالرحيل .. وعدلت عن فكرة تركهما وحيدان في الجزيرة هي وشقيقتي .
- وأخبرتني أمي أن هذه نبوءة أبي لها قبل أن يرحل .. وأنه فعلا قد حان موعد رحيلها معي في سفينتي .. ولكن أمي كانت قد قررت ألا تعود معي للجزيرة .. فهي تقصد الإقامة علي الشاطئ الأخر.. حيث الراحة والحياة الأفضل .. وأن علي أن أحافظ علي شقيقتي ذهابا وعودة .
وركبت السفينة بعد تموينها بالمياه الكافية وترتيب أعدادات الغذاء .. فعلت كل ذلك وأنا أقاوم خذلاني وخوفي ورهبتي .. أقاوم سنوات الاستسلام لليأس .. فبعد هذا العمر الطويل أقود السفينة كقائد وربان .. كدت أن أتراجع عن فكرتي إلا أني شعرت مع الرهبة بمذاق المتعة .. متعة العطاء وتحقيق الحلم .. كان من الصعب القبول ومن الأصعب العودة إلي اليأس.. وعندما أبحرنا كان البحر هادئ والموج .. متوسط الارتفاع .. حتى أوغلنا في الدخول إلي الأعماق واختفت من حولنا كل معالم الحياة .. لحظتها كان شعوري موحش .. قابض .. مع شعور باهتزاز ثقتي بقدراتي ..فنحن في الطريق صوب العالم الأخر .. أقصد الشاطئ الأخر المقابل لنا .. وهو بعيد عنا .. في هذه الأثناء ظهر لي أن السماء ملبدة بالغيوم وأن السحب من فوقنا داكنة وتحملها رياح عاتية تصنع زوابع من حولنا وتحمل الموج عاليا وفوقه سفينتي .. حتى أصبحت السفينة فوق جبل من ماء ولكنه جبل أزرق داكن هادر .. وكأن الموج قد طال السحاب بسفينتي التي تكاد تغرق بين السماء والأرض..فقد أصبحت في مهب الريح كدمية صغيرة تتقاذفها الأيدي .. والأقدار.. مع أمواج هذا الوحش الكاسر .. المحيط.. اكتشفت لحظتها وأنا أنظر إلي الخالق وأتوسل إليه ..مدي حاجتي إلي مساعدته دائما .. وأخذت بالأسباب .. لجأت إلي مساعدي.. الربان السابق .. وتركت له التحكم في سير سفينتي وفقا !
لرؤي
ته .. ولكن ثقتي في الله كانت أكبر ومعها بدأت ثقتي في نفسي وقدراتي تزداد واختلفت عن السابق .. فهل كل ذلك حدث بفعل تأثير هذه الحورية الجميلة علي .. أميرتي وأميرة البحار .. هذه الروح التي ظلت تتابعني بحب .. وظل طيفها يشاغلني ويدور حولي .. ويمنحني الأمل في نجاح رحلتي .. كنت أراها وهي جالسة فوق تراقبني.. وأنا في حيرة من أمرها وأمري .. هل هي حقيقة ملموسة أم أنها طيف داخلي.
- كانت تبتسم فأطمئن .. أنها الباعث والمحرك الذي حرك سكوني .. هي الروح التي أرسلها لي ربي لأنقذ ماتبقي من العمر.. ولا أنكر دعاء أمي الذي لا ينقطع .. وما قدمت شقيقتي لنا من مساعدة .. فكانت توفر لنا المأكل والمشرب .. تعد الطعام .. كنت أكتسب مع الوقت مهارات القيادة وقراءة النجوم والخرائط لتوجيه المركب .. تبدلت تأملاتي .. أحلامي .. أصبحت أكثر واقعية .. أتحسب من حولي الأمواج .. الأعاصير.. أتحسس خطوات سفينتي في الاتجاه الصحيح .. أستوقف السفن وأسأل واسترشد بما حملت من معلومات .. منذ اللحظة قررت أن أرتبط للأبد بهذه الروح التي تحيطني ..فقد اكتشفت أنها كانت تعيش داخلي ولكني كنت قد تعمدت أن أغرقها في مياه البحر .. وأنها تمحورت وعادت لي كحقيقة ..وقد حان الوقت من أجل أن أبحث عن شبيهتها بين البشر وأرتبط بها وأتزوجها .. امرأة طيبة مثل أمي .. صبورة .. مكافحة تشاركني ما تبقي من أيام العمر .. عروس يصلح للبر والبحر.. تشاركني قيادة سفينتي وتنجب لي امتداي ..
فعلا وصلت رحلتي الشاطئ الأخر – بعد شهر من العمل الجاد ومن الكفاح والصراع مع البحر من أجل النجاة .. فسفينتي قديمة وخبرتي كانت معدومة..مع وصولي انتهت سلبيتي للأبد..ولدت من جديد.. سعدت بصحبتي .. بحوريتي الجميلة التي اكتشفت بعد وصولي أنها باعث من داخلي .. هي بعض مني .. حلم استطعت تحقيقه .. ولكنها مازالت تعيش داخلي وسوف تظل حتى النهاية .. كما سعدت بي أمي وشقيقتي .. عدلت أمي عن الرحيل وقررت العودة معي بعد أن زال اليأس فقد شعرت بالأمل وطردت اليأس بعدما وجدتني أنسان جديد مختلف عن سابق عهدي وأرادت أن تسعد بصحبتي وتكون حافز لي علي الاستمرار.. هنئني البحار العجوز علي نجاحي وأعلن تدشيني كبحار قدير بشهادته..مثلما تدشن السفن وعدل أيضا صديقي البحار عن فكرة الرحيل وقرر العمل معي كمساعد دائم للسفينة فهو شعر معي بالعطاء والألفة التي فقدها منذ أن ترك البحر .. وفعلا جميعا شعرنا رغم رهبة البحر بجو الألفة والأسرة.. وبدوري قررت البحث عن أبي من أجل أن أجمع شمل الأسرة وأعود لأستغل جزيرة السلاحف .. ولكن بطموح جديد وثقة في قدرتي علي القيادة بلا أنانية أو خوف.
تمت
2- العالم الجديد
علي شواطئ العالم الجديد .. أصابني الذهول .. المشهد والحياة مختلفين .. المساكن .. العمائر.. شاهقة الارتفاعات .. الارتفاعات تناطح السماء بقرونها الرفيعة التي تحمل أسلاك أجهزة الاتصالات.. عندما رأيتها .. تذكرت ما صادفني من سفن عملاقة مشيدة بارتفاعات شاهقة وهي تمر مارقة أمامنا عابرة فوق الأمواج ..تحمل فوقها مثل هذه المساكن الشاهقة ومثل هذه الأسلاك الرفيعة .. أنها تجوب البحار كمارد صغير يعرف كيف يشق طريقه وسط هذا المارد العملاق .. المحيط الهندي .. كانت أيضا المركبات تسير محركاتها بسرعات مذهلة وقد تنوعت أشكالها وألوانها وأحجامها .. فضلا عن ملابس المارة .. الزاهية والأنيقة والتي تكشف محاسنهم .. حيث تبدو النساء كاسيات عاريات .. مما يجعلهم أكثر فتنة وأغراء من نساء جزيرتنا الملتزمات بتعاليم الله .. كان الوقت يمر بسرعة السحاب .. لا أثر للسلاحف عندهم .. فقط القطط الضالة .. وبعض الكلاب الضخمة بأيدي أصحابها.. أنه عالم أخر وألوان ودنيا مختلفتين.. ولغات وألسن غير مفهومة.. ورغم أن الشوارع تبدو مجهزة للسير ونظيفة إلا أني كنت أخشي التجوال فيها .. فهي مزدحمة بالمارة علي خلاف جزيرتنا .. والمتاجر تبدو أيضا في أبهي حلة وتخرج من بعض الحانات أصوات عالية وموسيقي صاخبة ومتداخلة.. يبدو أن الزمن أختلف مع اختلاف المكان و إحساسي أني في أرض غير الأرض التي أعرفه!
ا وأني كنت كالأموات و الآن أصبحت وسط الأحياء .. لعل الحلم عاد أصبح ملموس .. ووسط هذا الزحام ضاع أبي .. ولا أملك خيطا يمكنني من الوصول إليه وسط هذه المتاهات .. لابد من معجزة ربانية .. يبدو أنني كنت غير مدرك لحقيقة الحياة و الآن أدركت طعمها ولونها الوردي .. هنا تبدو الحياة جميلة وتدعو للتفاؤل .. لن أعود لجزيرة السلاحف.. لن أعود لحياة الخمول والكسل .. هذا قراري المبدئي .. رغم خوفي من الضياع وسط كل هذا العالم .
بعد أن أنهيت مستندات دخول العلم الجديد .. كنت في حيرة من أمري .. فلا يوجد لدي تصور محدد لترتيب أقامتنا هنا.. فقد تعودت في جزيرتي العيش ببساطة وعشوائية .. مع هذا الإحساس انتابني بعض الخوف وزاد احساسي بمدي أهمية مساعدي كدليل لنا في غربتنا .. فهو السند وطوق النجاة عند المحن ومخرجنا من مآزق التعامل مع شعوب مختلفة وأجناس غريبة .. نعم هو العصا السحرية التي قد تنتشلني وأستخدمها في مواجهتي لهذا العالم الساحر ..أنه يعرف كيف يتعامل معهم .. يجيد لغتهم.. يجيد البيع والشراء معهم .. من الآن سوف أصطحبه كما يصطحب الابن أباه حتى أكتسب المعرفة .. لابد أن أتعلم ما أجهل .. الآن أفكر جديا في بيع سفينتي القديمة أو استبدالها بمنزل نعيش فيه .. وعلي أولا أن أعمل بسرعة علي بيع بضاعتي وتحويلها لنقود سائلة لكي تكون مصدرنا للدخل ولإعانة الأسرة علي ترتيب متطلبات حياتها .. فاتحت أمي في الإقامة الدائمة في هذه البلاد وبيع السفينة .. ولكنها رفضت بإصرار كل أفكاري .. قالت : الآن .. أصابني الإحباط وفقدت الأمل .. بعدما دشنتك ربان .. وحمدت الله علي نجاحك بعد تعثر كل خطواتك السابقة وخمولك وخوفك من الأقدام علي الحياة ومواجهة مخاطر البحر بشجاعة الرجال .. وقد أصبحت ربان سفينة بعد طول صبر وسنوات من الانتظار .. تألمت وهي تعبر عن حصرتها علي تراجعي بعد أن كانت سعيدة ب!
قدرت
ي علي قيادة سفينتي والأخذ بزمام الأمور.. واعتبرت تفكيري نكسة أو انتكاسة أصابتني بسبب انبهاري بالحياة الجديدة .. فهي تري أن جزيرتنا أجمل وأفضل بقاع العالم .. ولم يجتذبها أو يبهرها هذا الزحام وهذه الزينة .. وظلت تأكد علي أنني سوف أزهد مع الأيام كل هذا وسوف أشعر وتشعر شقيقتي بالضياع وسط هؤلاء الأغراب.. وقد كان لكلماتها وقع داخلي.
بصعوبة نقلنا البضاعة للسوق في سيارة مستأجرة.. وبمهاراته أستطاع مساعدي بيع السمك المجفف بأسعار مذهلة .. كنت لا أحلم بها ولا أتصور.. وأتضح أنني كنت أبيعها في الجزيرة بأسعار زهيدة وأن الأرباح الطائلة كانت من نصيب التجار .. وإن أسماكنا المجففة ..مطلوبة ومرغوبة لأهل هذه البلاد .. بعد بيعها انتقلنا للسكن المؤقت في غرفة فوق سطح أحد العمائر بالقرب من البحر الذي أعشقه.. وكان السطح ممهد ببلاطات كبيرة ناعمة وبيضاء وعلي جانب كانت غرفتنا الخشبية التي تشبه كوخنا القديم بالجزيرة .. كانت الغرفة خالية الأثاث إلا من بساط يفرشها فوق الأرض يصلح للنوم والجلوس عليه وبعض الأواني القديمة في مطبخ صغير به موقد يشتعل بلا أخشاب .. متصل بأنبوب للغاز وبجوار المطبخ حمام صغير وصنبور للمياه .. ورغم أن الغرفة تختلف عن المباني الفاخرة التي تحتها إلا أني دفعت فيها أجرا مرتفعا أستطيع به بناء غرفة كبيرة في بلادي وكما علمت من صديقي أن ايجارات المساكن هنا باهظة الثمن ولكنها تتوافق ودخول أهل البلاد المادية .. وبهذا تركت سفينتي وحيدة في عرض البحر عرضه للسرقة أو التخريب .
تحت تأثير الانبهار .. كنت أتجول كالمخبول مبهورا بين الحانات .. أتأمل البضائع المتنوعة والتي لم أشاهدها من قبل وطرق التعامل بين البشر .. وحماسهم في العمل والحركة الدؤوب التي لا تنقطع ليلا ونهارا وقد تحولت لياليهم نهارا بفعل الأنوار الصناعية والكهرباء.. وفي ليلة من الليالي قررت أن أتحلي عن ملابسي القديمة البالية وأستبدلها بأخرى جديدة ومناسبة رغم اعتزازي بها .. وذلك بعد أن شاهدت نظارات الاستياء والامتعاض والاشمئزاز لي ولها وكأني لست من البشر أو كأني حضرت من كوكب غير الكوكب .. وفعلا اشتريت ملابس غير تقليدية .. ملابس مثل ملابسهم الزاهية والغريبة ..اشتريت حذاء وجورب وسروال أو بنطال أو بنطلون جينز كما سماه مساعدي عندما ظل يضحك بقوة وهو يسألني .. ماذا فعلت بنفسك يا رجل ؟.. ارتديت الجينز وفوقه قميص فضفاض .. ولكنه مفتوح الأزرار من فوق الصدر .. بحيث أظهر مدي شبابي وقوتي التي ظهرت تفوق قوة وحيوية شباب هذه البلاد .. ورغم أنها ملابس غير مألوفة لدينا وقيدت حركتي كثيرا إلا أني كنت كطفل .. أشعر بالفرحة والسعادة الغامرة .. سعيد بارتدائها وبأني مسجون داخلها بمرح وحب.. بعدها تشجعت ودخلت حانة من حانات الرقص والموسيقي لأستمتع بعض الوقت مثلهم .. وقد كان جيبي خاويا .. حيث كنت قد دفعت كل مافي جيبي من مصروف دفعته أمي لي باعتبارها محفظة الأسرة و
أمين صندوقها ..كنت قد دفعت كل ما معي لمتاجر الملابس .. وحتي أخرج من المأزق بعد أن تناولت وجبة مع امرأة تعرفت عليها بالحانة .. اضطررت للموافقة علي تنظيف حمامات الحانة وترتيبها كاختيار.. نظير وجبتي ووجبة من أكلت معي بدلا من أن أنال عقابي من الشرطة أو أضرب من رجال الأمن العاملين بالحانة.. بعدها شعرت بالمهانة والندم والضياع.. وأدركت أن هذه البلاد لا تقدر ولا تحترم الانسان إلا بمقدار ما يحمل من أموال .. فشعرت بالخوف الحقيقي .. وخشيت أن تنفذ أموالنا ولا يتبقي لنا مصدر للأنفاق فأتعرض وأمي وأختي للمهانة .. وأنا هنا بلا عمل ولا دخل ولا مواهب تؤهلني للعمل مثلهم .. فبدأت في البحث عن فرصة عمل .. وكان صديقي مساعدي الربان السابق قد عمل فعلا في مكتب شحن بالميناء .. عمل كهمزة وصل بين بحارة منطقتنا وموظفي الميناء.. فعملت معه عملا مؤقتا .. حمالا بالأجرة داخل الميناء وحتي أكون قريبا من مقر رسو سفينتي.
لم يستغرق الانبهار كثيرا .. بعد ما يقرب من شهر أو أكثر بدأت وأمي وشقيقتي نشعر بعد هذه المدة.. نشعر جميعا بالخوف .. بالملل .. بالاختناق .. بالغثيان .. الأجواء كلها ملوثة بالعوادم .. عوادم السيارات والمصانع والمزارع .. تجعلنا نشعر بصعوبة التنفس .. الأجواء ملوثة من حولنا .. فالهواء النقي يقطن شواطئنا .. هناك في جزيرة السلاحف.. لم نعتاد الزحام .. البشر هنا تعمل كالنحل في نشاطها .. وكتروس الدراجة في حركاتهم.. وكالنمل في أعدادها ومثل الطيور في أسرابها .. هذا الخوف والاختناق جعلني أجلس وأفكر في الأمر .. ففي هذه البلاد لكل شئ مقابل .. لا يوجد أسماك بالقرب من الشاطئ .. تأخذها مجانا من شباك الصيادين لتأكلها أنت وأهلك .. ولا يوجد سكنا أو أرضا بدون أجرة تدفع لأصحابها .. حتى السفينة سوف أسدد عنها رسم انتظار فوق سطح الماء .. ووسط هذا السواد الأعظم الكثيف من البشر لا أثر لأبي .. كنت أتساءل .. هل أنا معرض للضياع وسط هذا الزحام العجيب .. من الصعب أن أعيش مستريح وسط هذا الكم ووسط كل هؤلاء بهويتي وثقافتي وديني .. تذكرت ما عاهدت حوريتي عليه .. أن أكون طموحا .. أن أكسر حاجز الخوف داخلي وأقود سفينتي .. وطالما كنت قد حسمت أمري.. وقررت أن أكون طموحا .. ايجابيا ومشارك في الحياة ولست متفرجا .. فعلي أن أرحل من هنا .. وأن أعود إلي قيادة سفينتي ذهابا وايابا وأن أبحث عن ش!
ريكة
لحياتي .. امرأة من البشر.. وأن تعلم لغتهم .. حتى اتعامل معهم وأبيع بضاعتي لهم .. بعدها قلت بأعلى صوت وبصياح : الآن إلي جزيرتنا أيها الرجل .. أنت انسان جديد يملك الهدف.
عدت لأمي لأزف لها البشري .. قلت لها وأنا أجلس في ركن مظلم من الغرفة علي بساط بالي وقديم .. سوف نعود معا إلي سفينتنا من أجل إرضاءك .. سوف أجعل سفينتي وسيلة اتصال بيننا وبينهم .. ففي الوطن قدرنا .. وقد يكون هنا رزقنا .. فنحن كأسماكنا نموت إذا خرجنا من ماء جزيرتنا .. ومضات هذا العالم الجديد مبهرة يا أمي .. ولكن قد تعمي عيوننا بأضوائها .. أنها مجرد ومضات .. ولابد من أن تزول .. ولكن نقاء جزيرتنا مازال يحيا في قلوبنا.. ركبت السفينة لأتعلم الدرس وأجوب هذا العالم بلا خسائر .. ولن أجعله يقودني بلا أرادة.. سوف أبحر بسفينتي في كل البحار .. وأكتشف يا أمي ما تحمل البحار من أسرار.. بدعائك حبيبتي .. زحفت أمي إلي حيث أجلس وأخذتني في حضنها .. وهي تربط علي كتفي .. ودموعها تتساقط .. بلا تعليق .
بعدها أستعد الجميع للرحيل وتم تموين السفينة بالوقود والماء وأجراء الصيانات الضرورية لها .. وعندما بدأنا نتجه نحو السفينة كانت أمي تتكأ علي ذراعي وبجواري شقيقتي وصديقي البحار.. وكنت أنظر وأتأمل هذه المباني العالية وأنا أردد بصوت غنائي : سوف أعود إليك مرة أخري .. أيتها الأطلال العالية .. واليوم ذاهب إلي بلادي البعيدة الغالية.. سوف أعود.. سأعود فوق سفينتي إلي سلاحفي الهادئة الراسية .. علي شواطئ محبتي وطفولتي الجميلة الحانية.. بلا زحام .. حيث الحورية والأحلام .. هنا يعيش الناس في الأوهام .. وهناك نحيا الخيال والأيام.. هكذا كنت أغني ومساعدي ونحن عائدين إلي السفينة.. وقد اصطحبت معي بعض المسافرين الراغبين في السفر لجزيرتنا العذراء.. والفضل يرجع في ذلك إلي صديقي ومساعدي الذي أستطاع أن يقنعهم من الركوب معنا بلا خوف.
اكتسبت خبرة من رحلتي الأولي بدأت تتضح خلال رحلتي الثانية .. عادت حوريتي تداعب خيالي مرة أخري وأتخيلها علي صفحة الماء .. كنت أتأمل تفاصيل جمالها وهي تمرح حول السفينة .. شعرت من خلالها بمدي احتياجي لامرأة تساندني رحلاتي الطويلة .. تخفف عني وعثاء ووحشة السفر.. تعطيني الأمل وتدفعني إلي العمل وتنجب لي امتدادي.. تقف وراء ظهري وأنا أقود سفينتي وهي تساعدني وأساعدها .. احتضنها بالحب والألفة لكي تشعر معي بالأمان والأمل .. نعمل معا في الأعداد والترتيب لرحلاتنا القادمة بسفينة جديدة وعصرية نشتريها معا و ندشنها بأيدينا.. نعم شقيقتي قد تساعدني ولكنها أيضا تفتقد السند والونيس .. لا يصلح أن أكون أنا بديلا لها عن الزوج .. ولا تصلح هي أن تكون بديل .. حتى أمي .. هي قطعا وبلا شك .. هي جذوري التي نبت منها .. ولكن لا يصلح أن أثمر منها .. بل من إنسانة نبيلة.. أحقق الحلم .. نعم هناك مستجدات في حياتي .. شعرت بالحاجة إلي المساندة بعدما نفضت عني الخمول والكسل.. هكذا مرت الرحلة وأنا أفكر في الشريكة المناسبة وفي طموحات جديدة بدأت تنمو داخلي .. بالبيت الجميل والجزيرة المتكاملة الهادئة والسفينة العصرية وأن أتعلم كل العلوم والفنون وأصبح منتج ومتزن .. وبينما أنا مستغرق في الحلم .. شعرت به يربط علي كتفي وهو يسألني عن سر غيابي وانطوائي .. أنه صديقي البحار العجوز.. فاتحته
في الأمر .. ضحك وقال لي لا تتعجل سوف تصادفك في جزيرتنا الجميلة.. أعتقد أنك قد أصبحت ناضجا وتستحق أن نطلق عليك من الآن : حكيم الجزيرة.. أعمل ولكن لا تتعجل .. طالما لديك هدف فسوف يتحقق ..العمل والإصرار بعد تحديد الهدف.. يشغلني مثلك أيها الحكيم.
تمت
مواضيع ذات صلة
1. وئام عبد الغفار: طائر الجسد الحزين
2. بقعة بترولية مساحتها 2500 متر في ميناء الاسكندرية .. والبيئة تحقق
3. مصدر مسئول بميناء الإسكندرية ينفي غرق السفينة الإيطالية
4. تحطم سفينة شحن تحمل ” أسمنت ” لمصر في أحد الموانئ التركية
5. غرق سفينة ايطالية محملة بمواد سامة بميناء الإسكندرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.