سعيد سالم سعيد سالم: 1- ترددت كثيرا قبل أن ألقي بنظرة الي الشارع من شرفة الطابق الأخير في البناية العالية قالت لي بريجيت حين لاحظت شحوب وجهي. انظر ولا تخف سوف أجذبك بشدة لو حاولت أن تلقي بنفسك إلي الشارع! لم أتعجب كيف اخترقت أسواري النفسية المنيعة بهذة المقدرة الفائقة, فقد احتوتني بذكائها المشتعل وثقتها العميقة منذ التقيت بها للمرة الأولي في ستوكهولم. داعبت بأناملي المرتعشة شعرها الفضي اللامع فقبلتني بحنان أسدل السكينة علي روحي. تشجعت ونظرت الي الشارع فانتابتني الأعراض الجسمانية والمشاعر الغامضة نفسها التي تنتابني كلما نظرت الي الأرض من مكان عال. في البداية أشعر بثقل شديد ينساب في عمودي الفقري من أعلي الي أسفل, ثم يتركز بشدة في نهايته حتي يخيل الي أن نخاعي سوف يتساقط مني. وبعد أن أستقر علي تلك الحالة المزعجة أري الناس والعربات في حركتهم الدءوبة المسرعة وهم يتلاشون تحت بصري كما يتلاشي الزمن, يبدو لي كل شيء في هذه الدنيا موغلا في البعد, متناهيا في الصغر, متضائلا في الأهمية. قالت لي وأنا أكبرها بخمسة أعوام:- انت ياصغيري مجنون باستكشاف الحياة. ركزت بصري علي العالم السفلي فرأيت عربتي تجري بي مسرعة الي بيت الجميلات.. هكذا كان أهل الحارة يسمون بيت حبيبتي في الإسكندرية. ربت والدها علي كتفي في أبوة خارقة وخيل الي أنه يشعر نحوي بالإشفاق أكثر مما يشعر بالحب. كانت نظراته ونظرات ابنته الكبري وداد, نظرات فاهمة واثقة, أما أنا فكنت في غاية من الفرح البريء الخالص حين نجحت في تركيب جملة مفيدة أطلب فيها يد وداد, بعد لحظات انقلبت نظرات الفهم عند صهري المرتقب الي نظرات ذاهلة محيرة حين انفجرت أمامه كينبوع بكر, أحكي بكلمات تلقائية متدفقة,كيف عرفت ابنته وكيف أحببتها وكيف فضلتني علي غيري من المتنافسين علي الرغم أنها تكبرني بخمسة أعوام. صبت بريجيت القهوة وانتزعتني بلباقة من عالمي البعيد حين قالت لي لقد سحرتنا بفنك الشرقي الأصيل أيها الخجول المتمرد! عبرت لها عن امتناني الشديد لما بذلته من عون لتمكنني من الاشتراك في معرض العاصمة السويدية.. تتلقي كلماتي بنظرة حب غامرة تزرع في قلبي ثقة بالحياة لا حدود لها, كنت عاجزا- علي الرغم من مرور يوم كامل- عن السيطرة علي أعصابي منذ واجهت جمهور السويد للمرة الأولي ففاجأني باقتناء معظم لوحاتي في زمن قياسي. لم أصدق ما حدث علي الرغم من وقوعه أمام عيني, وفوجئت بهجوم من المصورين والجمهور والصحفيين والنقاد علي موقعي, وعاودت النظر من جديد الي عيني وداد المسبلتين. غرقنا حتي القاع في عسل الحب وعنفوانه. في تلك اللحظات كنت علي يقين من أنني سوف أغزو العالم بفني وأهدي ثمار غزوي إلي وداد علي طبق من البلور الشفاف يتوسده قلبي وقد انفتح بمصراعيه علي حب الدنيا والآخرة.. غير أنني تذكرت أمي فجأة فبكيتها لأنها غابت عني منذ طفولتي المبكرة والي الأبد.. وربتت وداد علي صدري ومسحت شعري بأناملها وقالت لي: سأكون لك الأم والزوجة والصديقة والرفيقة. حين أحتوي بريجيت بين ذراعي تنسكب في وجداني مشاعر أبوة حارة تذكرني بابنتي الوحيدة أمل, وتلتحم تلك المشاعر بأحاسيسي فأسافر الي السماوات العلا وأهبط تحت قاع الأرض وأجوب البحار والمحيطات وأرتاد الحياة وأتلو الصلوات. ينهمر الدمع من عيني فتلعقه بلسانها الصغير وتقول انني رغم طفولتي أتطابق مع أبيها في نسيجه العاطفي المدهش! طمأنينتي للزمن كانت كاليقين. بكالوريوس الفنون الجملية وزواج عن حب. دكتوراه في التصوير وطفلان جميلان واسرة هانئة مستقرة. درجة الأستاذية وعلاقة حميمة بالطلبة والطالبات. معارض وبعثات في انحاء العالم وشهرة مدوية في عالم الفن. مكانة اجتماعية مرموقة. توازن دقيق بين مطالب رب الأسرة واحتياجات الفنان.. وفي النهاية توازن مماثل بين رغبات الدنيا وشروط الآخرة. لست أدري من أين وكيف أتيت لنفسي بتلك الطمأنينة دون عناء. صرخت وداد. مات الولد يا ماهر! أسفرت ضربة الزمن الأولي عن عاهة مزمنة قطعت علينا طريق الأمل في إنجاب طفل آخر بعد أمل, ولم تعد وداد تعرف النوم بلا مهدئات. سنوات في السويد توالت فيها الضربات دون أن يهتز يقيني بالأمان.. مازلت صغيرا.. هكذا كنت أردد لنفسي دون أن أدري. كلما نظرت في المرآة رأيت وجهي لا يتغير. بريق عيني لا يخبو, كنت ماهرا فقط في رصد ما حولي من متغيرات. فخدعة الزمن كانت أخبث بكثير من إدراكي. تهدل وجه وداد وبرز صدغها وخلعت أسنانها وضروسها وترهل جسدها الجميل. انفجر في داخلها بركان كامن تناثرت شظاياه في كل الدنيا دون أن تمسني منه شظية واحدة. أصابتني البلادة مثلما أصابني العمي في مقتل.. أما الاستقرار فكان حلما هزيلا باهتا لا يعني أي شيء. سنوات أخري في ايطاليا, وبضع سنوات في القاهرة وأخري في الإسكندرية وأمل تزداد التصاقا بأمها وأنا أزداد ابتعادا عنهما أنغمس. في فني حتي مشارف الموت وأتجرع نجاحي حتي الثمالة. أطوف بالدنيا منبهرا باتساعها المذهل وتناقضاتها الرائعة. نظرات صهري المشفقة لا تفارقني. لن تدخلوا ملكوت السموات ما لم تصيروا كالأطفال. تعطيني بريجيت ما لم تعد تستطيعه وداد.وتجوب البلاد معي وتسخر مني حين أرمي نفسي بتهمة الخيانة. تقول لي: كارثة أن تعيش في تلك البقعة المتخلفة عن العالم ياصغيري المسكين. ولكن أحب قومي وبلادي.. فتقول ساخرة: ولهذا تقدم لهم فنا لا يطلبونه ولا يستجيبون له فتضطر الي التوجه به إلينا. لو تخليت عن حبهم لتوقفت عن الإبداع. اترك هذه الأوهام.. دعهم لحالهم وعش معنا لمستقبلك. 3- تشتت ذهني وتمزقت مشاعرها بين الجليد الناصع والشمس الساطعة. تناثرت روحي بين مراكز ابحاث الفضاء وفتاوي الحلال والحرام, والاستقرار والانطلاق, والعقل والفوضي, والدين والفن.. اتسعت الفجوة بيني وبين الوداد والامل. تبدد اليقين وكشف لي الزمن عن أنيابه الطويلة السامة, فحملت حياتي بنقائضها وعدت إلي موطني لأبحث لنفسي عن خلاص.. ولكن يبدو أن الوقت كان متأخرا, إذ واجهتني وداد بأسلوب فريد من أساليب الرفض والتمرد لا قبل لي بمواجهته حولت نفسها إلي عجوز عجفاء تقتات بكسرات صغيرة من الخبز وتنفر من رؤية اللحوم والأسماك وتمضي اليوم في الابتهال إلي الله وأداء بعض تمرينات اليوجا.. لم تغضب يوما في وجهي ولم تعطني فرصة واحدة للثورة عليها, رأيت نورا شفافا يسطع من روحها, وينعكس علي ابتساماتها الجديدة الشاحبة التي لم تعد تفارق وجهها في أي ظرف من الظروف, لعلها أرادت أن تنتقم مني بأسلوب أعجز عن مواجهته حيويتي في ازدياد وتدفق, وزهدها لا يلين ولا يضعف قالت في هدوء مخيف: ينبغي أن نحرص علي أمل حتي لا تضيع منا هي الأخري. لم أتجاهل فكرتها حاولت الاقتراب من أمل, استجابت البنت بفرحة طاغية رحت معها وجئت اصطحبتها في كل مكان أذهب بها إلي درس الموسيقي, أشجعها علي مراسلة الصديقات والأصدقاء في أنحاء العالم الذي ازداد بعدا عنا بمرور السنوات أشرح لها المحاضرات التي لا تستوعبها, أغذي حبها للغات الأجنبية بكل وسيلة متاحة أشفق علي بنيتها الفكرية الهشة من التمزق بين ما عاشته في الغرب وما تصطدم به هنا تم الأمر بنجاح وتبددت سحب الاكتئاب الكريهة الغائمة التي كانت تخيم علي حياتي منذ عدنا إلي الوطن.. وحين سألتني أمل بما يشبه الرجاء: لماذا لا تحب أمي كما كنت تحبها من قبل؟ توسلت إليها أن تمحي من ذهنها تلك الفكرة حتي لا تدمر الجسر الذي يصل بيننا, لم أنتبه إلي أنها كبرت, لم أصدق أنها ستفهمني لو ألقيت علي كاهلها بمعضلتي, لم أقل لها أن وداد قد قررت تدميري بسلاح لا أعرف ولا أحب أن أواجهه أردت أن أسألها هل يستقيم الحب بين فنان وزاهدة ولكنني وجدت نفسي أسألها سؤالا أخر: هل تعتقدين أنها تفعل بنا وبنفسها ما تفعل عن إيمان حقيقي؟ أجابتني ببراءة خالصة: أظن ذلك, ولكنها حرة فيما تفعل ولكنها تعيش معنا وتؤثر فينا رغما عنا. عد إليها يا أبي, جرب أرجوك. أمضيت ليلتي في سهد حارق أفكر في مصيري, وأجتر كلمات ابنتي التي ازدادت وعيا بالحياة, تسلل إلي صوت عميق يخاطبني بنبرات واثقة: ما جدوي هذا الذي تسميه فنا ولا يعبأ به أحد؟ في بادئ الأمر صدمت, بعد قليل أدركت أنها قد أعلنت حربا صريحة ضد وجودي, قلت لها مستدرجا: حددي ماذا تقصدين. هربت مني في لمح البصر. أنا لا أقصد شيئا. وداد.. إني أحبك لأول مرة تضحك مني في سخرية. لأنك طفل, لم تستطع تجاوز ما هو زائل إلي ما هو خالد. لم أنطق, أخفيت وجهي تحت الوسادة وحاولت النوم, أنت مجنونة يا بريجيت من هذا الرجل؟! صديقي. صديقك؟!.. ومن أكون أنا؟ أنت ماهر صديقي أيضا ربما كنت أنا المجنون الحقيقي لا بريحبيت فلو كانت زوجتي لقتلت ذلك الوحش الأسود الرابضه في استكانة بين أحضانه أما هذا المشهد فلا يعني عندها شيئا, بل لعلها في دهشة لذهولي الغبي من ممارسة حقوقها العاطفية المشروعة!! ولعلني أجد الوسيلة يوما لاستعادتك يا أم أمل, فأنا لم أعد طفلا. في الصباح دق جرس التليفون في المساء جاءوا انزويت في مقعد أتأمل كيف يجرؤ هؤلاء الأغراب علي اختطاف ابنتي بهذه البساطة استنادا إلي قانون اسمه سنة الحياة, وكيف يجرؤ الزمن أن يصل بي إلي هذه لمحطة من العمر دون استئذان. عدت بسنواتي إلي بيت الجميلات حين خرجت من غرفتها لتعيد عقارب الزمن إلي الوراء في تحد مثير الشعر الفاحم المنسدل علي الكتفين, والنظرات العميقة النافذة والجسد الفوار بحرارة الشباب والصدر المنتصب في اعتزاز ونشوة, وابنتي فرحة بالأغراب سعيدة بفكرة الاختطاف, ولن أنظر إلي المرآة مرة أخري ولن يبقي لي من سند في سنواتي وأيامي الباقية إلا وداد, هكذا تخيلت وهكذا تمنيت. لكن بريجيت قالت لي بلا شماتة: كنت واثقة في عودتك.