كان جالساً وحده.داعب الكمبيوتر الذي أمامه،ثم توقف بعد أن أنهي عادته التي يطلقها كل يوم.كان يحادث الكمبيوتر الأصم بلغة الأصابع التي تنقر علي الأوامر التي ينفذها بكل دقة،ويطالع بصورة سريعة بعض العناوين في الجرائد اليومية،ثم ينهش عقله فكرة:أنه مثل الكمبيوتر الآن؛لا يعرف غير الأوامر.ثم يحادث نفسه بصوت مسموع ترتج لها الحجرة الضيقة،ونفسه الضيقة-أيضاً- في تلك اللحظة الحرجة(هل أصبحت يا آدم آلة تخزن ما ترسمه لك الحياة؟)خاف فعلاً من حدود الفكرة الملعونة،وتنهد بصوت مسموع،وتعوّذ،ثم قام مسرعاً،وأطفأ الكمبيوتر..لكن الفكرة متجسدة الآن. لم يتركه السؤال،وظنّ في هذه اللحظة أن الفكرة مرتبطة بالجهاز الذي أمامه؛فقرر أن يعطي ظهره للكمبيوتر؛عسي أن تتركه الفكرة الملعونة.خبط علي رأسه،ومسح جبهته،وضغط عليها بقوة، وهاجس يلح عليه:الفكرة قائمة في ذاتها.لا تستطيع أنت أن تبقيها كما هي.إن لمس الأشياء لا يجعل الفكرة واضحة..لكن حالتك هي التي تجعل من لمس الأشياء معني. لماذا يا آدم تربط بين فكرة وشيء محسوس ليس بينهما رابط؟إن دلّ ذلك علي شيء إنما يدلّ علي أن الفكرة موجودة قبل الأشياء المحسوسة؛فلا تخاطر ،وتصبّ علي الكمبيوتر كل غضبك! دار في الغرفة الضيقة دورات لا يحصي عددها،وأدرك أن سكون الليل يقتله،وتمني أن يطلع النهار بكل سوءاته..لكن هذه الفكرة أيضاً بدأتْ تشاغله:أنه في هذه اللحظة وحيد،وميت.وأدرك أنه وحيد فعلاً بعدما فكّر،وعدّ أسماء كثيرة كان يظن أنه يحبها(يا آدم هل هذه الأسماء موجودة بالفعل؟)شكّ في كل الأسماء التي يعرفها،وحاول أن يستنطقها.بصعوبة بالغة؛زلف لسانه اسماً أو اسمين متشابهين،وحاول أن يربط بين الاسم وأي موقف..لكنه لم يجد مواقف تذكر،حتي أنه تلعثم في نطق الأسماء القليلة.ثم أخذ وقته في التذكّر،ولم يستعجل دماغه،وأشعل سيجارتين،ورشف كوباً من القهوة.آه يا آدم..كل الأسماء التي تتذكّرها فردية. حاول بإصرار أن ينقّب عن الأسماء ثلاثية؛فأدرك أن لا وجود لاسم ثلاثي علي الإطلاق في ذاكرته؛وتنهد بعمق،وأطلق آها موجعة خلعتْ جلد جسمه،وأحسّ أنه عار تماماً من الأصدقاء،ومن الذين يحبهم..لكنه تدارك الموقف،وقال لنفسه:(ربما يكون شخصاً ما أحبني.أين أنت أيها المحب؟) لا تكذب يا آدم علي نفسك الآن.أنت أخلصت لفكرة تعشقها منذ القدم،ولم تخلص لأحد.تتقرب بمقدار،وتبعد بمقدار أطول.كانت لك جوالات مع أناس ،تضحك معهم،وتشاركهم أحزانهم،وتخرج معهم في أوقات أنت وحدك تحددها.كل شيء عندك بمقدار. يا آدم لا تترك نفسك الآن علي سجيتها.أنت القامع والمقموع! لقد شارف آدم علي الخمسين.لا يزور أحداً،ولا أحد يزوره.هو لا يخص أحداً بعينه،ولا أحد يخصه.كل ما في الأمر؛يلتقي بالناس صدفة.هم لديه صور ،وأشكال باهتة..كما كان يردد لنفسه دائماً . الآن فقط؛أدرك آدم أن ليس له صورة.لم يتذكّره أحد،ولن يحزن عليه أحد.غصباً؛فرّتْ منه دمعة محبوسة منذ أن عرف نفسه في لحظات متشابهة،وحاول بإصرار نسيانها.جوارح آدم المرتعشة؛تجسدتْ في هذه اللحظة لفكرة الحزن. آه يا آدم من الحزن النبيل،الخالد مع اسمك.أنت حُزننا جميعاً منذ الخليقة،ونحن لك الفرح الذي لم تحسّ به يوماً،ولم تدركه!يا آدم،يا قديم قدم سؤالي،هل أنا أنت؟سؤال سخيف،وقديم أيضاً! أزاح آدم أسمه،وأدرك أن الاسم لا يخصه.هذا أسم البشريء جميعاً،وبحث عن أسم خاص به حتي لو كان أسما يستهزأ الناس به،وحاول أن يتذكر اسماً كان له في الصغر.لم يجد؛فانهار تماماً،وقال لنفسه:أنت لم تملك لنفسك ولهذا الجسد أي خصوصية.وانصاع لحزنه فعلاً في هذه المرّة،ولم يقاوم.بللتْ الدموع كل الأفكار التي مرّتْ علي خاطره في الغرفة الضيقة. هل هذه الغرفة الضيقة قبرك يا آدم؟أنت لا ترد،لأنك تحاسب نفسك الآن بعنف. عين آدم لا تشاهد إلا الظلام منذ مدّة طويلة.كانتْ تشتاق لأول النهار،وبزوغ الشمس عنوة من مرقد الظلام.كانت تريد الألوان..كل الألوان،وكانت الأذن تود سماع صخب الباعة والأجساد واحتكاكها،ورنّة الأقدام المتسارعة وهي تخبط الأرض بقوة.ناهيك عن زقزقة العصافير وهديل الحمام.وكان الأنف المزكوم من برد الليل؛يتمني ولو مرة واحدة:اشتمام الندي علي الأشجار،وأريج الزهور والمحاصيل المزروعة أياً كانت.وكان الفم يحاول تذوق الكلمات الصباحية دون تكلف أو افتعال.كان يحاول أن يصنع جسراً مع الحركة اليومية،ويشتاق لطبق الفول والبصل الأخضر علي العربة المكشوفة لعين الناس.كان يود أن يشعر باندفاع الناس حوله،حتي يلحقوا بأول خيط من أوقات العمل،ويحملون صباحاتهم الممزقة بين أعينهم،يطردون ما تبقي من النعاس. كان ليل آدم للظلمة ،وصرير الحشرات الليلة،ونباح الكلاب ومواء القطط،والصمت المطبق علي كل شيء.الشيء الوحيد المفرح وسط هذا كله:دعاء الديوك قرب الفجر..لكنه كان يغض السمع عنه،ويحاول أن ينام. *** راودتْ آدم كل هذه الأفكار،وهو يتمطي علي الكنبة المستطيلة بحجرته الضيقة.وفكّر كم من الأشياء عزف عنها وتركها،أو هي التي تركته.حاول أن يلملم شتات نفسه:(أبني أكيد بيحبني)لكنه أبتسم لنفسه(كيف لصغير أن يحب؟هل يعرف الحب فعلاً،أم أن حاجته لي هي الحب؟هل للحب تعريف محدد؟)آه يا آدم،أنت الآن تسأل مثل طفل! يا آدم،الحب شخصي جداً..مغلّف برغبات ومخاوف لا تنتهي.إذا اشتدتْ الرغبات أو المخاوف زاد الارتباط.الحب عبودية لذيذة نمضغها كل وقت..ظاهرها الرحمة،و..لكن بداخله اللهفة، والشوق،والحنين..تلك الأشياء التي نحبها.يا آدم،أنت لا تدرك الآن،أن الحب رغبة جامحة لا تهدأ إلا بالتهامنا. وغاب آدم في سؤاله اللعين(أبني أكيد بيحبني)وظل متأرجحاً بين اليقين والشك! 2 الثانية بعد منتصف الليل؛وكوب الشاي بجانب آدم علي شرفة غرفة الجلوس بالدور الثالث.كان رأسه يتدلي كثمرة ناضجة..يمكن لها أن تسقط مع أي ريح بسيطة.هذا الرأس يتلفتْ ناحية اليمين مرة، وناحية اليسار مرة باستمرار.الحقيقة أن أحداً لا يمر في هذا الوقت.لقد خلتْ الأرض إلا من آدم الحي الآن. لم يجرب آدم في تلك اللحظات الفائتة أن يُسكّتْ هذه الرأس،وتيظل في المنتصف.لقد ظل رأسه_ رغماً عنه_ متأرجحة بين اليمين واليسار.ظل آدم علي هذه الحالة فترة من الوقت،ثم حرك رأسه إلي أعلي؛فوجد هالة من السواد،وأدرك أن النجوم قد اختفتْ دون مبرر له.وكانت شفتاه تنفث دخان السيجارة بتمهل شديد.دخان السيجارة يساعد الطبيعة في رسم صورة ضبابية.صورة غير مفهومة..لكنها متجددة دوماً.في ذاتها معني،ولآدم معان أخري مختلفة.معان تخرج من ذاته في هذا الوقت من العام. تعمّ البرودة المكان الآن،وتحتل نفوس البشر.البرودة قد خرجتْ من البشر_هي منهم ولهم_ فيزدان المكان بها.الناس الآن تتحلي بالبرد فرحين..مغمضي العين،ملتصقين بعضهم ببعض رغماً عنهم،ناسين أشياء أخري تجلب لهم الدفء. كان رذاذ المطر الخفيف ينزع الرؤوس إلي داخل البيوت مرغمة..إلا تلك الرأس المعلّقة ،والممسكة بالسيجارة التي تغبّش الرؤيا. سمع آدم اسمه أكثر من مرة.انشغل بالاسم المتوحد مع الكون في هذه اللحظة.كأنما اسم آدم لا يمت إليه بصلة،ثم كان رجع الصدي الذي احتله؛فزعق بعزم صوته الجهوري والخشن في هذه اللحظة(أنا آدم..من ينادي عليّ؟)انفتحتْ العيون،والأبواب،والشبابيك منزعجة من صوت آدم الجارح للصمت الآن.كانت غرفة آدم مظلمة،ورأس آدم مازالت علي الشرفة.لم تلحظ العيون الباحثة عن الصوت المزعج وجودها..حتي أن هاجر_ زوجة آدم_ قامتْ مفزوعة،بحثتْ عن آدم.كان مختفياً في الظلام،لم تحسّ بوجوده؛ولم تسأل نفسها عنه.لقد اكتفتْ بوليدها؛فدخلتْ إلي فراشها،والتصقتْ به.كان ابنها يتململ..يبحث عن دفئها(اخرج يا آدم)توتر آدم في البداية،وأزعجه النداء،وتساءل بصوت مسموع:(كيف الخروج؟)وظل النداء يحتل الغرفة المظلمة؛وظل آدم منكمشاً علي نفسه فترة..لكنه في النهاية؛طَمأن جوارحه المرتعشة؛وقال بصوت مسموع (أنا آدم المصري.لا.لن أخرج!) لماذا ذكر المصري؟لم يفكر.ربما أن هذه الألفاظ المنطوقة عفوياً لها معني. قديماً،كانت الناس تناديه بأسماء شتي.كانت الأسماء لا تعجبه؛فسمي نفسه:آدم،وتذكّر كيف أنه_بصعوبة_استخرج بطاقة الهوية من السجل المدني القابع بالمدينة،وكيف أنه وقف أمام الموظف مرتبكاً. - اسمك إيه ؟ رد بثقة - آدم - آدم ؟ وتلعثم الموظف في نطقه أول مرة،وردده مرات عديدة بدندنة،وأدرك أن هذا الاسم هو اسمه؛فتغاضي عنه..لكنه لم يبتسم.لم يكن الاسم متداولاً في هذه الأرض بعد أن .كان اسماً فريداً له وقع السحر والدهشة.استفاق الموظف من شروده،وقال: -واسم أبوك؟ لم يجد اسماً غير المصري؛فابتسم ،وقال: -المصري -اسم أبوك ؟ لم يرد،وظل مبتسماً،ولفّتْ ابتسامته علي المكاتب كلها..لكنهم في النهاية؛وعلي مسئولية رئيس السجل المدني؛كتب الموظف:آدم المصري. تذكّر؛وارتسمتْ علي وجهه المكدّر ابتسامة..نصفها عبوس،والنصف الآخر صافي صفاء الصمت، وحاول أن يرفع ذراعيه لأعلي..لكن نداء اسمه مرة أخري؛وبقوة؛ لم يعطه الفرصة لأي شيء..حتي أنه لم يستمتع باختيار اسمه؛وبالذكري(اخرج يا آدم)جرفه النداء-هذه المرة-دفعة واحدة؛فلبس خُفاً علي عجلٍ؛ولبي النداء فرحاً. 3 لم يكن بوسع آدم أن يرمي فرحة خروجه،ويظل محبوساً بين الجسد النحيل،والجدران المرسومة له.علي أطراف أصابعه سار.كان يعرف طريقه في الظلمة.تحسس باب الشقة،وتحسس نفسه قبل أن يقفل الباب علي ابنه شادي وأمه.كان يكتم أنفاسه حتي لا تفضحه. وقف أمام البيت المكون من ثلاث أدوار.هو يسكن الدور الثالث.رغم السواد المطبق علي الكون في هذه اللحظة؛إلا أنه شاهد الطوابق الثلاثة؛واحتفظ بكل التفاصيل.كانت عيناه عين ذئب جائع يود التهام أي شيء.يشبع هذا الجوع الغريب. وسط الشارع الضيق؛رفع ذراعيه،وحركهما يمنة ويسرة.وكان الرذاذ الخفيف يعانقه بحب لم يدركه آدم يوماً.أحس أن هذا اليوم هو يومه.ربما يكون هو اليوم الأول،أو اليوم الأخير.كان آدم يود شاهداً علي هذه اللحظة النادرة جداً.رفع آدم رأسه للرذاذ؛فابتل وجهه كله،دلّك وجهه،ومسح العبوس الذي كان يسكنه،ثم ارتوي.بعدها؛قرر المسير.تمهل في سيره،واستدار كثيراً..ربما يلمح هائماً مثله.لا أحد الآن.هو وحده؛فاغتبط كثيراً.لقد امتصّتْ الجدران_ منذ بداية الليل_ الحركة،والضوضاء،والسعي المبجل..الممزوج برائحة العرق. مشي آدم مترنحاً من وحدته التي يحبها،وحاول أن ينغّم صوته بكلمات قليلة يحفظها..كلمات مأثورة،لها وقع السحر من فرط تجانسها وحكمتها.ثم تذكّر أغنية قديمة لم ينشدها إلا مرة أو مرتين.وقف علي ناصية الشارع،وكانت الأغنية قد خرجتْ مجلوّة بالصفاء،والسكون المفعم بالتوحد الجميل،والمريب في آن واحد.سحبته الأغنية بعيداً..حتي أنه رقص علي أنغامها.أغنية ذاتية جداً.فكر آدم في الموت فرحاً(لا أحد يموت فرحاً يا آدم!)كان يود الموت في هذه اللحظة..الموت رقصاً.كان إيقاع الأغنية يتسارع،وتشابك الجسد مع الإيقاع السريع..حتي وقع آدم من طوله،وعانق الأرض الرطبة،وتمني عدم قيامه،وأخذ يتشمم الأرض الرطبة.قام من رقدته بعدما استراح الجسد قليلاً،وناوشته فكرة:هل يصلح هذا الكون مع هذه الوحدة الجميلة،أم لابد من المشاركة؟ انتاب أدم شعور بالتوزع بين الوحدة والو نس؛فرفع بصره للسماء.كانت النجوم مازالت مختفية.نظر إلي البيوت المزدانة بذبالات ضوء ضعيفة،وسار بتؤدة ،وهو ينظر إلي الشوارع الضيقة والمتقاطعة،وأدرك أن هذه الشوارع لا تعرفه..حتي البيوت التي يعرفها تنكره الآن.كانت قديماً تناديه،وتستقبله في أي وقت.هو الآن وحده؛والبيوت مقفلة علي أصحابها(لكِ الله يا بلدتي؛تنامين حين أستيقظ)وأعطي وجهه للمدي.وكلما سار خطوة؛يتسع الفضاء حوله.في هذه اللحظة؛شعر بأن الفضاء ملكه وحده. أشعل سيجارة بعود الكبريت الأخير،وشاهد نفسه في العتمة.ومع أول نفس؛تذكّر أن هناك حانة يلتّم فيها شمل المبعثرين ليلاً؛فهرول في سيره.كانت أنفاسه جليّة له؛أعطته فرصة وحيدة بأنه موجود فعلاً.دار في كل الحواري والأزقة..لكنه عاد مرة أخري لنقطة بدايته.