لن يفوتك هذا المشهد، إذا ما تركت جانبا الرجل الآلى الذى يتلبسك وتخليت عن السير «المبرمج» أى المخطط له سلفا عن طريق الكمبيوتر الذى يمنعك من مجرد النظر حولك. ستجد العشرات من الركاب (موظفين وصنايعية وطلبة) وقد تكدسوا فى نقاط متفرقة من الطريق ملوحين إلى إحدى سيارات (الميكروباص) التى تخترق الزحام فى سرعة البرق، فقد يجذبك هذا الطالب الذى يقرب بين يديه مكونا شكل المثلث، فتظنه طالبا نقطة نظام وتتعجب مع نفسك «ما هذا الطالب الأرعن ؟!هل هذا وقت التفلسف؟!»، فتكتشف أنه يستوقف السائق بكل بساطة مشيرا إلى أهرامات الجيزة أو منطقة الهرم. أو هذا الرجل ذو البدلة ورابطةالعنق الذى يقوم فجأة بحركة من البانتومايم مثل الدق بيد الهون، وتدرك أنها كود خاص موجه لسائق الميكروباص يعنى حى الدقى. أما على طريق كورنيش حلوان فتجد أحدهم مشيرا بيديه«طوالى» مما يعنى نهاية الخط التحرير، أو يهز يديه إلى أسفل بشكل رأسى يمينا ويسارا مما يعنى الخط المتقاطع مع الطريق الطويل أى الجيزة. وقد تلمح من يلف يده بحركة حلزونية مستمرة، على طريق الأوتوستراد، قاصدا بذلك الطريق الدائرى، أو عامل البناء الذى تراه مكونا بإصبعيه علامة النصر كما نراها فى أخبار التاسعة فإذا به يعنى رقم سبعة أى الحى السابع بمدينة نصر. وتتعجب لما يدفع تلك السيدة الوقور فى الخمسينيات من العمر لأن تؤدى بيدها هذه الحركة الدائرية بجانب الرأس والتى تستخدم عامة للدلالة على الجنون العقلى لتشير للسيارة المارقة إلى أنها قاصدة منطقة العباسية! من صاحب براءة اختراع هذه الشفرة ولغة الإشارة تلك التى حولت التواصل فى الشارع المصرى إلى لغة البانتومايم؟ هل هو الراكب؟ كما يقول أحد السائقين هل هو هذا الموظف أو المدرس أو العامل الذى يعلم أن كل دقيقة تأخير سوف تقتطع من مرتبه المحدود؟ أم هو هذا الصنايعى الذى «يلاغى» السائق ويحادثه بنفس لغته التى يتقنها أيضا؟ والذى فى أغلب الأحيان لن يقرأ اللافتة الخاصة بخط السير التى يضعها بعض السائقين المتزنين؟. هل مؤلف هذه اللغة التى لا تخلو من طرافة هو السائق الحاذق، الفهلوى الذى «يكبر دماغه» و«لا يريد كثرة كلام» والذى «يقصر ويلم المتكسر» دلالة على الإيجاز إلى حد استخدام الإشارة؟ هذه الشخصية التى فرضت نفسها على الواقع المصرى مع الانفتاح ولاقت سنوات ازدهارها فى الثمانينيات حيث كان حلم الكسب السريع لكل من لا مهنة له أن يشترى عربة الميكروباص يكيل فيها الركاب كيفما يشاء وينقذهم من أوتوبيسات هيئة المواصلات التى تكتظ بأعداد القاهريين المتزايدة فتختنق بها المدينة. يركب السائق الطريق ويفرض وجوده على جميع السيارات، يملأه صخبا و«غرزا» أى يتجاوز جميع السيارات التى تحيط به بحركات متماوجة مثل الأفعى. أطلق عليهم مصطفى ذكرى اسم معبرا عن حالهم وهو «عفاريت الأسفلت» فى فيلم كتب له ذكرى السيناريو فى1992وأخرجه أسامة فوزى فى1995ولعب بطولته محمود حميدة. فتناول الفيلم بشكل روائى وجمالى هؤلاء الطائرين دائما على الطريق، تحركهم قيم الكاوبوى ويجمعهم الطموح المادى المحض. وإذا كنا اليوم نبحث فيما وراء هذه اللغة السريعة التى تنافس لغة الفيديو كليب العصرية وتتفوق «فى لمح البصر» عليها، فيبدو أنها انعكاس للهاث المتواصل ليس فقط من ناحية السائق بل أيضا من ناحية الراكب. فيؤكد مصطفى ذكرى كاتب سيناريو الفيلم والروائى الذى يبرع فى نسج العوالم المهمشة أن هذه اللغة الخاصة بشريحة سائقى الميكروباص تتضاءل شيئا فشىء، لأنها أساسها الحس الاستعراضى الذى يتلاشى مع الطحن العام الذى ينال من الجميع. فيلاحظ على حد قوله أن «السمات التى كانت تميز كل فئة أو أصحاب حرفة معينة تمحى شيئا فشىء وصارت ملامح كل شخصية باهتة مع كثرة العواصف الاقتصادية التى يمر بها الجميع وهنا لا يبقى سوى الطموح المادى الذى يجمع هذه الشخصيات الباهتة». فقبل أن نكره سائق الميكروباص، الذى نضعه فى قالب العاطل الذى يتعاطى المخدر كالماء والهواء والذى يختصر النموذج البشرى فى جنيه أو نصف الجنيه، والذى يجول فى المناطق العشوائية دون ترخيص متحديا السلطة التى ُيرهبها بكم البلطجة التى يتمتع بها والتى يعرف تماما كيف يفر منها فى الوقت المناسب تماما كعفريت الأسفلت (هذا الذى يطلقون عليه التعبير الشعبى «مقطع البطاقة» أى غير الباقى على أى شىء)، قبل أن نكرهه علينا أن نعلم أنها مجرد صورة لا تتعدى نسبة ضئيلة وسط آلاف سائقى الميكروباص، وأن الغالبية هم سائقى الميكروباص الذين أصبحوا مثلنا جميعا. يطير السائق على الطريق كى يلحق بجولة سير جديدة (تماما كما قد يفعل المدرس بدروسه الخصوصية المتلاحقة أو الموظف الذى يعمل سائق تاكسى بعد الظهيرة)، ولا مانع أن تأخذه الحداقة فيختصر المسافات ويتفادى الوصول إلى مركز التجمع حتى يفوز بجولة معفية من الرسوم، ويطير أيضا على الطريق الأسفلتى هربا من قبضة الأمن الحديدية وفساد بعض القائمين عليه. حيث يعتبر رجال الشرطة سيارات الميكروباص مكانا مستباحا يستقلونه دون مقابل، ويخصصونها لمأمورياتهم الخاصة راغمين أصحابها على الانصياع لأوامرهم بل وفى أحيان كثيرة مستغلين سلطاتهم القمعية (من سحب رخص وغرامات) حتى يلبى لهم السائق أى تنقلات خاصة. وتختفى الحداقة والفهلوة والكاوبوى القديم أمام تلك السطوة لأن التجارب قد علمتهم «أنهم يجاملون بعضهم على حسابنا». مثلنا تماما، أى الشعب المصرى كله.