توقفوا أيها السادة.. الإشارة حمراء منذ سنوات.. والإصرار علي كسرها يعد بمثابة شروع في خنق العاصمة.. فالمرور في القاهرة ضل الطريق.. وهذا طبيعي لأن المدينة المخططة عمرانيا لاستيعاب 4 ملايين نسمة، أصبحت شوارعها وميادينها مرتعا لعشرين مليون نسمة!.. »كوكتيل زحمة وربكة« أدي إلي تخفيض سرعة السيارات من 04 كم/ساعة منذ 5 سنوات إلي 91 كم/ساعة فقط حاليا.. ويتوقع الخبراء شلل الحركة في المستقبل القريب، إذا استمر توافد قوافل وجحافل البشر والمركبات علي القاهرة التي داهمتها الشيخوخة المبكرة، وذابت معالمها وملامحها وسط الزحام! انظروا حولكم.. من هؤلاء؟ ومن أي الأماكن جاءوا؟ وماهي وجهتهم؟ ولماذا ارتضي الواحد منهم أن يترك مسقط رأسه ليعيش في مكان آخر؟! إنهم باعة جائلون.. وصنايعية.. وعمال معمار باليومية.. سماسرة وبوابون وحراس عقارات وماسحو أحذية.. وغيرهم كثيرون ممن لازالوا يبحثون عن فرصة عمل- كلهم تركوا محافظاتهم ونزحوا إلي القاهرة.. وإذا سألتهم: لماذا تركتم الريف الهادئ للإقامة في ضجيج القاهرة، فإن انفعالاتهم تلازم كلماتهم ليقولوا: »أكل العيش مر ياناس«! هؤلاء يا سادة يمثلون الهجرة الداخلية من الريف إلي المدينة.. وهي هجرة شرعية من وجهة نظرهم ووجهة نظر القانون والدستور.. لذلك فإن محافظ القاهرة السابق تراجع عن تصريح له بمنع الصعايدة من دخول القاهرة.. قال إن ما ذكره كان بمثابة دعابة بعد ان فوجئ برد الفعل الغاضب من أبناء الصعيد.. لأنه لا القانون ولا الدستور يمنع مواطن ريفي من دخول القاهرة، والعكس صحيح.. وبالتالي أصبحت العاصمة المدينة التي لاتنام ويقصدها كل أبناء الريف للعمل والاقامة.. أصبحت القلب الموجوع الذي تضغط عليه الأطراف بقسوة كل يوم! اختفاء الرصيف هي فعلا فوضي.. وما رصدته جولة الأخبار يصلح كلوحة مأساوية تصرخ ملامحها بكل عناصر الفوضي.. فالرصيف اختفي.. تم اغتياله في وضح النهار.. الباعة الجائلون عرضوا عليه بضاعتهم.. ملابس- أدوات كهربية- لعب أطفال- المشط وفلايات«!.. ثم أحذية وأجهزة موبايل وغير ذلك من مستلزمات تجارة الرصيف.. حتي أمام مداخل ومخارج المترو تم السطو علي الرصيف. - سألنا أحد الباعة الجائلين امام محطة مترو جمال عبدالناصر: لماذا إصرارك علي عرض بضاعتك هنا.. هناك أماكن أخري؟ - أجاب: »رزقنا في الزحمة.. كل اللي داخل المترو ممكن يشتري مني.. وبعدين انا من المنيا، عندي 5 أولاد ولا أجد عملا في بلدي.. سعيت علي رزقي هنا.. وأسافر كل شهر لبلدي.. ربنا يرزق كل عباده«! ولا يقتصر اغتيال الرصيف علي اعتداء الباعة الجائلين.. فقد أكدت جولة »الأخبار« أنه عرضة لاعتداءات وتعديات كثيرة.. فالمقاهي لا يكتفي أصحابها بالمساحات المخصصة لها حسب التراخيص.. إنما تحتل الأرصفة المواجهة لها.. بل تستقطع جزءا من الشارع بما يؤدي إلي طرد حركة المشاة إلي نهر الطريق لتعطيل المرور. وإذا كانت المحليات تقوم بتحرير محاضر الاشغالات من حين لآخر، فإن أصحاب المقاهي كما يؤكد حسن محمود - عامل سابق باحدي الكافتيرات- يدفعون الغرامة لأن قيمتها أقل بكثير من مكسب المخالفة.. ثم يعودون لاحتلال الرصيف بناء علي التفاهم فيما بينهم وبين موظفي الأحياء »!« شارع 62 يوليو أما شارع 62 يوليو، فهو حالة خاصة جدا من الفوضي واللامبالاة.. فالمسار المخصص لحركة السيارات لم يبق منه إلا القليل.. وذلك لأن الباعة الجائلين وضعوا بضاعتهم في الشارع.. ولعدم وجود الردع أو العقاب فقد قام أصحاب المحلات التجارية بإخراج جزء كبير من بضاعتهم لعرضها في الشارع أيضا.. وبذلك أصبحت رحلة السير صعبة للقادم من وسط البلد في اتجاه كوبري 51 مايو.. خاصة أن مافيا الميكروباص أكملت حصار المرور في هذه المنطقة، حيث اتخذت من مطلع الكوبري »موقفاً« لتجميل وتنزيل الركاب! والواضح أن لكل فوضي أسرارها كما يشير جميل عبدالفتاح- تاجر وقومسيونجي- فهو بحكم عمله كثير التردد علي المناطق التجارية.. ويري أن وكالة البلح التي تؤثر تجارتها سلبا علي حركة المرور تحمل نفس سلوكيات منطقة العتبة التي اصبحت تمثل بؤرة للزحام والتكدس.. واصبحت ملامحها الفوضوية أمرا واقعا!.. فتجار العتبة رأوا ان الباعة الجائلين ينافسونهم في السوق، ففرفضوا عليهم »أرضية« تعد بمثابة رسوم مقابل وقوفهم أمام محالهم التجارية.. وتطور الأمر بعد ذلك إلي تزويدهم بالبضاعة التي يقومون بعرضها للبيع.. أي شراكة في التجارة وتضخيم حال الزحام.. وهذا ما يحدث ايضا في وكالة البلح.. نفس الشراكة بين التجار والباعة الجائلين الذين احتلوا شارع 62 يوليو »!«. معارض في الشارع وتزيد حالة الاشتباك الفوضي لتهدد حركة السير بالاصابة بالسكتة المرورية.. وهي حالة ننفرد بها، وقليلا ما توجد في دولة أخري.. فمعارض السيارات والموتوسيكلات فعلت نفس ما فعله تجار العتبة ووكالة البلح.. خرجت إلي الشارع.. وجاء مخالفتها علي درجتين.. الأولي تمثلت في السطو علي الرصيف المخصص للمشاة.. وبعد النجاح في هذا السطو زحفت إلي الشارع لعرض سياراتها لتعترض حركة السير »!«. وأما مشكلة المراكز التجارية.. فهي تؤكد أننا ندمن العشوائية.. نفكر بأثر رجعي.. بل ونفهم بأثر رجعي!، فرغم حالة التكدس والاختناق فإن تراخيص إقامة المراكز التجارية - المولات- مازالت تصدر في القاهرة الكبري.. مراكز تزيد من حدة الزحام.. وتضاعف من حالة الاختناق الراهنة.. والمتابع للعملية التجارية بهذه المراكز يجد أن زبائنها هم الطبقة الميسورة.. وأفراد هذه الطبقة لن يلحقهم الضرر إذا ذهبوا بسياراتهم إلي المدن الجديدة لو أن العقلاء من المسئولين قرروا إنشاء هذه »المولات« هناك. الأمر في حاجة إلي إعادة نظر.. بل إلي إعادة صياغة لطبيعة تعاملنا مع الشارع كما يرد د. حسام البرمبلي أستاذ العمارة بجامعة عين شمس، موضحا أن شوارع وميادين العاصمة لم تعد تحتمل إنشاء مراكز تجارية جديدة.. بل أن 06٪ علي الأقل من المراكز الحالية ما كان ينبغي الترخيص باقامتها.. وبالتالي فنحن في حاجة إلي اللجوء ل»العقل« والمنطق.. إلي احترام التخطيط، وذلك لنعرف أن وجود مراكز تجارية وسط الزحام، يضاعف من هذا الزحام، لأن الزبائن وسياراتهم في الذهاب والعودة يمثلون عبئا علي المرور.. أما بالنسبة للأرصفة التي أصبحت في معظمها مجرد »ذكري« فلابد من تحريرها من التعديات مع ضرورة وضع كود للرصيف، يحدد مساحته ومواصفاته ويمول دون تركه للاشغالات التي تحرم المشاة من استخدامه.. علي أن يقترن ذلك بضرورة الحملات الجادة من المحليات لتحرير الرصيف من التعديات. تشتيت الزحام »كتب علي العاصمة أن تكون مدينة جذب للسكان« هذا ما يؤكده اللواء محمد الناظر مدير مرور القاهرة السابق ومدير مشروع النقل الجماعي حاليا، مشيرا إلي أن كل الباعة الجائلين وعمال المعمار وماسحي الأحذية و»سياس« مواقف السيارات وغيرهم وغيرهم.. كلهم من المحافظات ويشكلون إضافة ملحوظة للزحام والتكدس.. والتنمية الحقيقية للريف لايجاد فرص عمل لهؤلاء تمثل الحل الآجل للمشكلة التي يساهمون فيها.. أما الحل العاجل فهو يتمثل في نقاط كثيرة.. أهمها الاهتمام بالتوسع في النقل الجماعي ونقل المصالح والوزارات إلي خارج الكتلة المضغوطة بالزحام.. والتنفيذ الفعلي للامركزية، فلا يعقل أن تكون معظم رحلات السيارات الوافدة من الريف كل يوم لمواطنين جاءوا للحصول علي »ختم النسر« من العاصمة! ولا يعقل أن يتردد علي مجمع التحرير 001 ألف مواطن يومياً! - كذلك ضرورة فتح الجراجات سواء المغلقة أو التي تحولت إلي أنشطة تجارية، ولا يكفي ان محافظة القاهرة قد بدأت في هذا الإجراء.. إنما يجب أن يشمل كل محافظات القاهرة الكبري.. ومن الحلول العاجلة أيضا خلق منطقة إدارية بالقاهرةالجديدة يتم انتقال الوزارات والمصالح الحكومية إليها، شرط أن يكون انتقال المواطنين إلي هناك ميسرا من خلال النقل الجماعي.. ويتساءل اللواء الناظر: هل يعلم المسئولون أن محطة مصر يتردد عليها 52 ألف مواطن في الساعة كلهم يتخذون من ميدان وشارع رمسيس ساحة للتكدس؟!.. ما المانع من اعتبار محطة مصر محطة عابرة.. ويتم استقبال ركاب الوجه البحري في محطة تكون في شبرا الخيمة.. واستقبال ركاب الصعيد في المنيب؟.. ثم لماذا لا تحدد أوقات معينة لعمل الورش والمحال التجارية؟ وماذا يمنع العمل بنظام الزوجي والفردي لأرقام لوحات السيارات علي مدي الأسبوع.. إن دولا كثيرة طبقت هذا النظام ونجح عندها.. تعالوا نجرب. ويضيف اللواء الناظر: حان وقت التصدي لتحدي الزحام.. القاهرة كانت مصممة بشوارعها وميادينها لاستيعاب 4 ملايين نسمة.. حاليا يصول ويجول فيها 02 ألف نسمة.. أي شوارع تستوعب.. وأي مرافق تتحمل.. وأي مرور يسير و يتحرك؟!