كل منا يبحث عن السعادة، يجدها بعضنا فى لحن شجى، ويجدها البعض فى كتاب ممتع، والبعض الآخر يجدها فى مجالسة الأحبة والخلان، لكن الشىء الذى تجتمع عليه الأذواق والآراء هو المكان الجميل، الذى له خصوصيته عن باقى الأمكنة، هنا تأتينا السعادة مُرغمة. مشروع مبارك للتنسيق الحضارى الذى يُفكر ويُخطط ويُنفذ له المهندس الدكتور محمد فتحى البرادعى منذ توليه منصب محافظ دمياط وحتى الآن، يأخذك إلى أجواء مختلفة عن واقع ملىء بالضوضاء والتلوث والنشاز البصرى والسمعى، إلى واقع مختلف لن تجد اسماً أو وصفاً أفضل من أن تطلق عليه "الحلم المصرى". عمل البرادعى عبر استراتيجية إدارية فى هذه المحافظة مفادها، تعظيم موارد الدولة للإنفاق على مشاريع التنمية، دون الاعتماد على تبرعات رجال الأعمال، ومن ثم الوقوع تحت وطأة الاستثناءات والمقايضات، وكذلك عدم الاعتماد على موارد الدولة ومخصصاتها للمحافظة التى لا تتجاوز بضعة ملايين، وهنا اسمحوا لى أن أقفز مباشرة إلى آخر إنجازات مشروع مبارك للتنسيق الحضارى فى دمياط وهو مشروع الحفاظ على كوبرى دمياط التاريخى. إنه أقدم كوبرى معدنى متحرك على مستوى العالم، يعود إنشاؤه إلى عام 1890، حيث كان جزءاً من كوبرى إمبابة القديم على النيل بالجيزة، والذى كان يبلغ طوله 495 متراً، ثم نُقل جزء منه بطول 170 متراً إلى موقعه الحالى بدمياط طبقاً لعرض النيل فى ذلك الموقع عام 1927. والحق إن هذا الكوبرى يمثل نموذجاً حياً على تطور صناعة الحديد فى العالم، فضلاً عن تصميماته الجميلة ومساميره التى تكاد تنطق أمام من يمتلك عيناً كعين البرادعى، الذى اعتبره أثراً تاريخياً وأصدر قراراً بذلك يمنع تنفيذ عقد البيع الذى كان قد اُبرم مع جهة تجارية ببيعه بمبلغ 200 ألف جنيه، وكانت المرحلة التالية وهى نقل الكوبرى عن طريق خزانات ضخمة مليئة بالماء يتم نقلها إلى أسفل الكوبرى، ومن تم تفريغها من المياه لترتفع رويداً رويداً حتى تحمل معها الكوبرى بعد فصله عن القاعدة، ثم الدوران والاتجاه عبر النيل إلى مرساه الجديد فى عمل أشبه بالحدث التاريخى الفريد، على أنغام أوبرا عايدة، وبحضور عدد كبير من رجال الدولة ووسائل الإعلام المختلفة. استقر الكوبرى أمام مكتبة مبارك العامة بدمياط على بعد 2 كيلومتر من مكانه القديم, بزاوية انحراف تجاه موقعه الأقدم فى إمبابة, فى رمزية أشبه برمزيات الفراعنة فى معابدهم وآثارهم. شهادة ميلاد جديدة أصدرها البرادعى للكوبرى يوم الاثنين 30 من مارس هذا العام، عندما اجتمع أعضاء جهاز التنسيق الحضارى داخل الكوبرى لبدء فعاليات ندوة التنسيق الحضارى والمجتمع المدنى، وكان عرض البرادعى أمام الحاضرين ورجال الإعلام أشبه بالحلم الجميل المُوثق بالواقع وبالأرقام وبالنظريات العلمية. الوزيرة فايزة أبو النجا قدمت الدعم لبناء قاعة الاجتماعات والجاليرى داخل الكوبرى، ومدّه بالأجهزة ووسائل الاتصال الحديثة، وقد أفصح البرادعى وقتها عن التكلفة الإجمالية لهذا المشروع، وهى حوالى مليون دولار فقط . حالة من الارتياح والبهجة والشعور بالأمل عاشها كل من حضر هذا الحدث واستمتع بهذا المكان الراقى الخلاب على صفحة النيل الخالد, كان هذا الكبرى فى الماضى تقام عليه مسابقات القفز من أعلى نقطة فيه بين الشباب، ويشاهد الناس من فوقه المياه الحمراء، وهى مياه الفيضان وأسراب الدلافين وهى تتقافز، وذلك بعد الإزالة السنوية للسد الترابى عند فارسكور مع ارتفاع فيضانات النيل قبل إنشاء السد العالى. لقد حافظ البرادعى على أثر مهم لدى المصريين الذى كانت تربطهم ذكريات جميلة مع هذا المعدن الحى وحقق أهدافاً عدة أهمها أن التاريخ أمانة، لا يملك أحد حق بيعه أو التنازل عنه، إن صانع القرار إذا كان يتمتع بتعليم جيد ووعى وإحساس مرهف بمقدرات بلده فإنه يصنع الأمل لشعبه. هناك جملة تِرددها دائماً على لسان البرادعى "دمياط عبارة عن قطعة سوليتير عليها بعض الغبار، وأنا أقوم بنفض هذا الغبار"، وفى سؤال للبرادعى "لماذا لم تنفق المحافظة من خزانتها الخاصة على هذا الكوبرى؟، كان الجواب الذى يفيض وعياً ومسئولية "إحنا عندنا فلوس والحمد لله، ولكن المجتمع الدمياطى لديه أولويات، ففضلنا الإنفاق على هذا المشروع من وزارة التعاون الدولى". دائما أتساءل إذا كنا كمصريين نمتلك تركماً حضارياً وتاريخياً كبيراً يجعلنا أمة راقية فى سلوكها وعلومها وفنونها وآدابها، فلماذا ننظر للواقع بنظارة سوداء؟؟