اختار أشرف العشماوى فى روايته الجديدة موضوعاً مختلفاً وتوجهاً مغايراً ربما ليثبت قدرته على التعامل مع الموضوعات الواقعية التى تضرب بجذورها فى صميم الواقع المصرى ودهاليز الجريمة السرية فى مصر. ستقرأ فى هذه الرواية كيف يرى العشماوى بخبراته المتراكمة من خلال عمله كمحقق جنائى على مدار عشرين عاما ماضية فى قضايا الرأى العام أن التاريخ يعيد نفسه لتنمو بذور الثورات وشرارة الاحتجاجات مرة أخرى على سياسات دكتاتورية تكررت عبر السنين، ولا تزال وكأن شيئا لم يكن. شخصيات رواية المرشد هى كائنات حية أكثر من أن تكون خيالات يرسمها المؤلف، وعندما يدرك القارئ ذلك، يشعر أنه يكره طوال الوقت بطلى القصة ماهر السوهاجى الذى يجسد الفساد بكل ما تحتويه الكلمة من معنى، ورجل الدين الأفاق الإرهابى صادق عبد الحق، وبقدر ما اعتاد القارئ أن يتفاعل ويتعاطف مع أبطال الروايات، فإنه يجد نفسه مع المرشد أسيراً لمشاعر متباينة ما بين كراهية بطلى الرواية ماهر وصادق والنفور منهما، وفى نفس الوقت الوقوف متسائلاً بالكثير من علامات الاستفهام عن المغزى من عنوان الرواية ومدى إجابته عن محتواها!! ويتضح للقارئ منذ البداية أن المرشد ليس فقط عنواناً أو اسماً للرواية فقط، بل هو صفة ودور، وأحياناً معنى، وفى أوقات أخرى مهنة.. وغالباً عباءة وغطاء وستار، ودائما ما يكون له مقابل إما مادى أو معنوى، فالشيخ عبد الدايم شيخ القرية وصاحب المهنة الجليلة لم يمانع أن يكون مجرد مرشد فى خدمة كاظم بك الثرى، فيمهد له سبل الفساد تحت ستار الدين، ليخدع أهل القرية البسطاء، والمقابل هو إنقاذ ابنه من السجن، ومراد الشامى ما هو إلا مرشد يتولى مهمة البحث عن الآثار، ويدل كاظم بك عليها، ليتمكن من استخراجها وتهريبها للخارج، ليحقق الثراء، وماهر بطل الرواية يتعاون مع مرشد سياحى فى تهريب وسرقة آثار مصر مقابل جنيهات معدودة، ثم يعمل لصالح المخبر سيد مرشدا سريا للشرطة إلى أن يصير من كبار مرشديها فى تجارة الآثار، وفى ذات الوقت من كبار المهربين أيضا، أما الشيخ صادق عبد الحق ذو الجذور الصعيدية والألف وجه، فهو مرشد للمباحث العامة، ثم أمن الدولة يخبئ نواياه، ويتخفى تحت ستار الدين، لينقل الأخبار، ويتعاون مع الشرطة حتى يتمكن من استقطاب الضابط شريف أبو النجا ليصبح مرشداً لجماعته، ورغم أن مهنة هذا الأخير تحتقر هذا الدور، إلا أنه يجد نفسه يؤديه بكل براعة ليخدم أغراضه الخاصة، ويصل إلى ما تصور أنه الحقيقة وغيرهم وغيرهم، فكثيرون بيننا اليوم كانوا مرشدين بصورة أو بأخرى.. وكأن العشماى رفع الغطاء عنهم وتركهم يتقافزون على صفحات روايته حتى تحين نهاية كل منهم. الرواية تبدو حقيقية وواقعية للغاية - رغم أن كاتبها ينفى ذلك - حتى إننا نشعر أننا قد التقينا شخصياتها بالفعل فى كواليس الحياة، بل إننا قد نجزم أننا نعرف وجوه أبطالها ونرى تجاعيد هذه الوجوه، وهى تنمو وتزداد يوماً بعد يوم، وقد نشعر أننا عشنا أحداثها من قبل، ولكن ما يدهشك حقاً هو سرعة إيقاع أحداث الرواية غير المتوقعة، ونهايات شخصياتها غير المنتظرة، والتى كان لها تأثير كبير على مجرى سير الأحداث خلال فصول الرواية. يسدل الستار فى نهاية الرواية على مشهد لم يكتمل أشبه بالنهايات المفتوحة يتلون فيه الفساد بلون جديد، ويتخفى بعد أن غير جلده كثعبان أرقم، فيعطى الفرصة للخيال الخصب أن يتصور ويتخيل ويرسم بنفسه نهاية الفساد الذى دب فى جذور الكثير من مناحى الحياة، والذى لن يكون اجتثاثه سهلاً، لأنه لا يزال يضرب بقوة ويهدد جذور دولة بأكملها، فالرواية تلخص بين سطورها أحداثاً مرت على مصر خلال نصف قرن تقريباً من الزمان، وتختصر فى خطوط متوازية الأحداث السياسية التى عاصرها البطل تحت حكم ثلاثة من رؤساء مصر، وانتهاء بالفترة التى تلت ثورة 25 يناير مباشرة، ثم يأتى مشهد النهاية بمفاجأة ونبوءة لا أحد يدرى متى تتحقق، وإن كان الكاتب يرى أنها قريبة للغاية. "المرشد" رواية تعتمد الأسلوب الروائى والحوارى فى ذات الوقت، وتجيب على الكثير من الأسئلة التى نطرحها اليوم، وهى كروايات العشماوى السابقة تحمل بصمته وطريقته المتفردة فى كتابة الرواية العربية على شكل مشاهد أقرب ما تكون سينمائية متداخلة مع بعضها البعض بسلاسة شديدة على هيئة فصول قصيرة، يحمل كل منها عنوانا مستقلا جذابا معبرا، وهى طريقته التى ابتدعها منذ روايته الأولى "زمن الضباع"، ولا يزال يتقنها ببراعة.