(1) إن ما مرت به مصر من عمليات انتخابية واستفتاءات على الدستور بعد ثورة 25 يناير، وما تابع ذلك من إشكاليات جدلية حول الجمعية التأسيسية للدستور ومجلس الشورى والإعلانات الدستورية أدى إلى تفاقم قضايا خلافية بين كافة القوى السياسية على الساحة المصرية. فمن ناحية نلاحظ إصرار التيار الحاكم فى البلاد على المضى قدماً لإنهاء المرحلة الانتقالية وبدء مرحلة الاستقرار الوطنى رغم معارضة وعدم توافق القوى المدنية على قواعد اللعبة السياسية ويحوى هذا التيار توافق مع مشتقاته من التيارات السياسية الإسلامية المعتدل منها والمتشدد، ومن ناحية أخرى نجد موقفاً موحداً لكافة القوى المعارضة للنظام حول هذه القضايا، وحقيقاً أنها المرحلة الأولى فى تاريج مصر الجديدة أن نجد هذا التماسك وهذا التوافق الذى لم يقتصر على أحزاب أو حركات سياسية بل شمل العديد من مؤسسات المجتمع المدنى وقادة الرأى العام، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن نتيجة هذا التماسك والتحالف الذى طلبنا به منذ سنوات هل سيحدث تأثيراً ونجاحاً للقوى المدنية مستقبلاً؟ كما أن هذا التحالف يجمع تيارات فكرية وأيديولوجية متباينة وقد تكون متناقضة فى برامجها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فهناك ما هو إشتراكى وهناك ما هو ليبرالى فضلاً عن ما هو علمانى فهل هذا فى مصلحة هذا التحالف؟ أم سيكون معضلة فى المستقبل؟. (2) بعد ثورة 25 يناير كانت الأحزاب السياسية إحدى تجليات هذه الحداثة السياسية إلا أن الحداثة السياسية تمثلت فى مجال مؤسساتى مغلق واكتفاء الأحزاب بتكثيف فعلها السياسى الاستقطابى فى حدود دائرة الاستحقاق الانتخابى دون أى انفتاح تفاعلى مع المواطنين البسطاء، وتمادى ذلك إلى عدم ربط الحداثة السياسية بالديمقراطية الاجتماعية وحواملها الثقافية وأسسها التربوية الذى ترتب عليه تزايدة التطلعات البرجماتية والبروبجندا الإعلامية وأحدث القطيعة بين الأحزاب السياسية ومرجعياتها الاجتماعية، واقتصرت وظائفها الأساسية على علاقة التبعية والتماهى مع السلطة كأساس لمشروعية وجودها على الساحة السياسية، فمن المفترض أن تلعب الأحزاب أدوارا حيوية داخل المجتمع إلا أنها حصرت ظهورها فى الاستحقاقات الانتخابية كما غياب الدينامية داخل الأحزاب وأصبحت كالإطارات المعزولة عن شرائح واسعة من الموطنين. (3) إن ما حدث فى مصر بعد الثورة يستدعى إعادة التنظير حول مفهوم الحزب السياسى والفرق بينه وبين جماعات المصالح، حيث يلاحظ بعد الثورة أنه لم تعد الأحزاب السياسية تنظيمات للدفاع عن المطالب الشعبية وإنما تحولت إلى جماعات ضغط تعبئ كل طاقاتها من أجل إيصال قياداتها ورموزها إلى المناصب الوزارية والسيادية فى مختلف مؤسسات الدولة حيث تعمقت استراتيجية الغنيمة التى تتبناها النخب بمختلف أنواعها سواء كانت سياسية أو حزبية أو حتى إعلامية، ولعل هذا يفسر العديد من السلوكات المنتهجة من قبلها، فهى التى تعطى معنى لاحتكار بعض العائلات جملة من الوظائف والمهام، ما ظهر منها وما بطن فعلى سبيل المثال نجد عائلات متربعة على العرش الإعلامى مروجة لأفكار وآراء لا تحترم على الإطلاق مبدأ الحيادية متعدى حدود اللياقة فى استخدامها للألفاظ والتعبيرات. (4) إن تحول الأحزاب السياسية إلى جماعات ضغط أو مجموعات مصالح هى التى تفسر أسباب ابتعاد هذه الأحزاب عن الاقتراب من دائرة الفلسفة السياسية للنظام السياسى، وأن ما يميز العلاقات داخل معظم الأحزاب، كونها تقوم على أساس التبعية لأشخاص ومجموعات بدل التبعية لأفكار وقناعات، العلاقات داخل الأحزاب بعيدا عن المرجعيات المذهبية والسياسية، وأصبح منطق الانتماء يتأسس على خلفية خدمة بعض الأشخاص أو بعض المصالح، وبالتالى تدبير مصالح مشتركة معهم، حيث يتم تأطير ذلك من خلال "برستيج" سياسى، وتوسيعه داخل نفس الإطار، لتتحول الأحزاب إلى مجموعة تكتلات تتوزع داخلها المواقع وفق المصالح الممكن لكل شخص تحقيقها. (5) وتتجلى ظاهرة التجارة السياسية فى قيام عدد من رجال الأعمال فى تأسيس العديد من الأحزاب السياسية مشكلاً بها ضغطاً سياسياً ولوبياً على صانعى القرار السياسى لتحقيق مصالح معينة، ولم يقتصر ظاهرة التجارة السياسة على هذا النمط بل تنوعت أنماطها ومستوياتها حيث ظهرت مع خروج العديد من الأحزاب رحم أحزاب أخرى وهناك العديد من الأمثلة فى الشارع المصر على هذه الظاهرة، ومن مؤشرات التجارة السياسية أيضاً والتى وصلت لأعلى معدلاتها هو خروج العديد من القيادات وتنقلهم من حزب لآخر، أو تأسيسه لحزب جديد له والأكثر عجباً أن يكون رئيساً لحزب آخر بعد ذلك. إذا دققنا النظر فى تشكيلات الأحزاب السياسية بعد الثورة نجد العديد منها لا يختلف عن تشكيل جماعة المصالح التى تأسس لخدمة مصالح فئوية وأقلية معينة، وهناك ظاهرة جديدة وهى أحزاب المقاولات هى تلك الأحزاب التى يؤسسها رجال أعمال مستخدمين أشخاصا تم خلقهم وإعدادهم لوظيفة قيادة الحزب لتنفيذ إدارة رجال الأعمال، وهناك أحزاب كرتونية شكلت لتطفى الوجه الاجتماعية والبرستيج السياسى لرؤسائها الأمر الذى يؤثر على درجة ثقة المواطنين فى هذه الأحزاب. ولم تقتصر التجارة السياسية على المحيط الحزبى بل وصلة إلى الوسائل الإعلامية وأن تزايدها فى الإعلام يمثل الخطر الحقيقى الذى يعصف بتماسك الدولة ويفكك العقد الاجتماعى بينها وبين المواطنين.