إن المتأمل مليًا فى الشخصية المصرية يرى أنها برعت فى كثير من المجالات على المستوى الفردى، وعلى العكس من ذلك فى الأداء الجماعى الذى يوسم بالإخفاق إلا فى مواقف محدودة للغاية رسخت فى ذاكرة الأمة، ليس من عظمتها فقط بل ربما يكون من ندرتها أيضًا. هذا الوصف الثانى تحديدًا كنا لا نشعر به على مدى ثلاثة عقود أو يزيد، وهى فترة كمون الشخصية المصرية، ولما جاءت ثورة 25 يناير، وبعثت هذه الروح الأخّاذة ظن الكثير - ليس من المصريين فقط بل من الأمة العربية أيضًا - أن روح الثورة ستظل نابضة خفاقة، وسيكون الأداء السياسى والمجتمعى على المستوى نفسه من الحماس والنبل والإبداع الذى امتازت به الثورة فى أيامها الخالدة، لكنه سرعان ما توالت الإخفاقات المدوية التى رسخت الشعور بخيبة الأمل لدى كثير من البسطاء، الذين تربوا على ثقافة المشاهدة فقط على شاكلة مباريات كرة القدم. إن بعدًا مهمًا من أسباب الأزمة التى تعيشها مصر حاليًا هو محصلة لمعطيات التربية الفكرية، والمجتمعية السقيمة التى أرستها معالم نظام ديكتاتورى "سيكوباتى" معاد للمجتمع، فنالت هذه التربية معظم من ولدوا فى الخمسينيات والستينيات وأوائل السبعينيات، لقد تربت هذه الأجيال فى مناخ فكرى وتربوى سقيم، حيث أصابها الكثير من العطب بمعايير القيم، فيستحيل بلغة المنطلق ألا يكون الكثير من أبناء هذه الأجيال قد كذبوا أو نافقوا أو احتالوا.. بإرادتهم أو مدفوعين للتخلص من الحصار الديكتاتورى، الذى ثبَّت أركانه بافتقار المجتمع اقتصاديًا وفكريًا وثقافيًا. وبناءً عليه، فإن من يطلقون على أنفسهم النخب من جميع التيارات السياسية - من أبناء الأجيال المشار إليها سابقًا - يصولون ويجولون فى وسائل الإعلام يبثون آراءهم السقيمة، هم فى الواقع ليسوا نخبًا إلا من وجهة نظرهم الشخصية أو من وجهة نظر جيلهم الذى يراهم هكذا، أو قلة غافلة أو منتفعة من هذا اللغط. والدليل على ذلك ما سببته لهذه الأجيال من صراعات سياسية واجتماعية ورطوا فيها المجتمع بأثره بمن فيه جيل الثورة الحقيقى، ولم يقدموا حلًا عمليًا لأى قضية حقيقية من القضايا الملحة التى تؤرق المجتمع المصرى، واهمٌ من يظن أن الأزمة الحالية سببها الحقيقى الإعلان الدستورى الأخير الذى أصدره سيادة الرئيس أو الصراع الإيدلوجى بين الإسلاميين والليبراليين؛ إن جل الأزمة الحقيقية هو أن وُسِدَت الأمور لأجيال، لا أشكك فى وطنيتها – لكننى أشكك فى قدرتها على العطاء وسرعة تعاطيها مع المواقف والأزمات بما يتناسب مع سرعة هذا العصر، إن من يتأمل ميدان التحرير منذ الخامس والعشرين من يناير حتى يوم التنحى سيدرك أن جيل الثورة كان أكثر حكمة وأعظم أداءً وأنبل هدفًا من أجيال قُتلت فى معظمها الشجاعة فى قول الحق والترفع عن صغائر الأمور والمتاجرة بشعارات أجادوا ترديدها ولم يتأملوا دلالتها. عفوًا أيها الغافلون إن الزمن لا يعود إلى الوراء والنهضة من النهوض، والنهوض لا يأتى من الكهول والعجزة، ارفعوا أيديكم عن شباب الأمة، ولا تستغلوا نقاء سريرتهم لتنفثوا فيها سموم الماضى الذى تجرعتموه بإرادتكم أو رغم أنوفكم. وليتدبر أولو الألباب