من منا لم يشاهد قفزة المغامر النمساوى الشجاع (فيلكس بومجارتنر) (43 عاماً) أطول وأعلى وأخطر قفزة فى التاريخ.. حيث وضع فى كبسولة أسفل منطاد ضخم يعمل بالهيليوم وارتفع به فوق صحراء ولاية نيو مكسيكو فى الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى حدود الغلاف الجوى على ارتفاع 39 كيلو متر فوق سطح البحر، وهو أول شخص فى العالم يتجاوز سرعة الصوت بجسده دون أن يكون فى طائرة أو مركبة.. بل فقط بجسده، وجميعنا سمع بتلك المبالغات الشديدة التى صاحبت متابعة الشباب لهذا الحدث على مواقع التواصل الاجتماعى، والحديث عن خرقه لقوانين الفيزياء.. وتغييره لقوانين نيوتن.. وهو أمر عارٍ تماماً من الصحة، وكان الأسوأ من ذلك هو الربط الساذج بين ما فعله فيلكس وبين معجزة إلهية خاصة بنبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.. وهى معجزة الإسراء والمعراج.. والمقارنة بينهما.. وشتان بين الأمرين.. بل لا توجد بينهما علاقة على الإطلاق.. والربط بينهما يسفه من عقولنا ونظرتنا للأمور.. وللأسف كان السبب فى تلك المبالغات وذلك التخبط فى الرؤية هو التغطية غير الاحترافية من إحدى القنوات الفضائية والتى ظهر فيها محاولتها تعمد الإثارة وافتعالها بدون أى أسانيد علمية وبدون الرجوع لمتخصصين يشرحوا للعالم العربى الذى فتح فاهه مشدوهاً بما رأى والذى أظهر له تلك الهوة الواسعة بينه وبين العالم الغربى الذى يسبقه بالكثير والكثير فى مجال العلوم والتقنية الحديثة... وحال تلك الفضائية كحال باقى فضائياتنا العربية.. والتى نملك منها المئات وننفق عليها المليارات.. ولا فائدة من أغلبها سوى إلهاء الشعوب عن مشاكلها التى تغرق فيها.. وإفساد النفوس والأخلاق، وتغييب دور الدين من الحياة، بل ويسعى بعضها مما يرفع شعار العلمانية المقيتة إلى تحميل أبناء التيار الإسلامى - زورا وبهتانا - المسئولية عن التخلف الذى يعترينا.. وهم منه براء من تلك الترهات.. فنحن لم نتخلف ونتقهقر عن ركب العلم والحضارة إلا حينما ابتعدنا عن الدين.. والتفسير العلمى المبسط لتلك القفزة.. والتى هى جديرة بالفعل بالاهتمام، وقد تم الإعداد لها طوال خمس سنوات من العمل الدؤوب وتم فيها تحطيم أرقام قياسية وليس قوانين فيزيائية... فالمعروف أن الغلاف الجوى يتكون من ستة طبقات رئيسية تبدأ من سطح الأرض نفسه وتنتهى عند ارتفاع 64400 كلم وبعدها يبدأ الفضاء ولذلك كل آيات القرآن تتحدث عن السير فى الأرض وليس على الأرض..لأن الغلاف الجوى هو جزء من هذه الأرض، قال تعالى: {قل سيروا فى الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} (11 سورة الأنعام). إذن أين كان فيلكس تحديدا؟ لقد كان فيلكس فى الثلث الأول من الطبقة الثانية من طبقات الغلاف الجوى والتى تسمى [الاستراتوسفير] والتى توجد على ارتفاع من 30 إلى 80 كلم بداخل طبقة الأوزون، وتتميز تلك الطبقة بخلوها من الأعاصير والتقلبات الجوية.. وهنا ستكون قوة الجاذبية الأرضية أكبر من مقاومة الهواء وذلك بسبب الارتفاع الكبير.. فالهواء يكون أقل كلما ارتفعنا لأعلى، وهنا بما أنه توجد قوى تجذبه لأسفل بدون مقاومة ملموسة من الهواء فستزداد سرعته أكثر وأكثر إلى أن تصل لتلك السرعة التى تجاوزت حاجز الصوت، والمقصود بحاجز الصوت هنا هو اللحاق بالموجة الصوتية الموجودة فى الهواء وتجاوزها، وسرعة الصوت فى الظروف الاعتيادية تصل إلى 1200 كلم فى الساعة بينما فى تلك الأماكن المرتفعة جداً تقل سرعة الصوت، لأنها تتأثر بالحرارة والضغط وكثافة الهواء التى تقل كلما ارتفعنا،...كما أنه لم يخرق قانون احتراق الأجسام التى تخترق الغلاف الجوى..لأن فيلكس كان أسفل هذه الطبقة بحوالى 42 كلم..أما مسألة تحمل فيلكس لتلك السرعة العالية والتى بلغت 1324 كلم/ س أى كانت 1,24 مرة سرعة الصوت (قبل أن تبدأ تلك السرعة بالانخفاض حينما وصل لطبقة الغلاف الجوى الدنيا وهى طبقة [التربوسفير] لتصل للسرعة العادية للسقوط الحر للأجسام والتى تثبت بعد زمن من السقوط بسبب تعادل قوة السحب إلى أسفل التى تسببها الجاذبية مع قوة ضغط الهواء على الجسم من أعلى)..وتحمل فيلكس لتلك السرعة العالية يعود لتلك التقنية المذهلة لبزة رواد الفضاء وتلك الخوذة التى كان يرتديها والتى تتحمل ضغط وحرارة وسرعة أضعاف ما كان فى التجربة.. كما كانت تمده بالأكسجين اللازم وتعمل على تثبيت درجة حرارة جسمه وضغطه داخلها...وقد قام فيلكس فى تلك القفزة بتحطيم أرقام قياسية وهى: 1- علو القفزة، كان الرقم السابق هو 31 كلم باسم (جوزيف كيتينجر) الأمريكى سنة 1960م حيث أصبح 39 كلم باسم فيلكس 2- أعلى ارتفاع لبالون هوائى. 3- كسر حاجز الصوت لأول مرة بسرعة 1,24 مرة سرعة الصوت. بينما كانت مدة السقوط الحر لفيلكس قبل فتحه للمظلة هو 4,20 دقيقة...لذا فهو لم يكسر الرقم الذى حققه الروسى (يفجينى أندرييف) عام 1962 م حيث كان 4,30 دقيقة. وإن من نتائج تلك التجربة الهامة: 1- أنها ستساعد فى تفسير الآثار التى يتعرض لها الجسم تحت سرعات عالية تلامس سرعة الصوت. 2- كما ستساعد القفزة فى تطوير بزات رواد الفضاء وكذلك أنظمة القفز المظلى وستساهم فى مجال تطوير إجراءات الأمان للطيارين ورواد الفضاء بالإضافة إلى سياح الفضاء المستقبليين 3- وهى خطوة للأمام فى فهم القوانين الفيزيائية. وبالنسبة لى فكان أكثر ما جذبنى لتلك التجربة المثيرة والشيقة هو ما رواه فيلكس عن المشاعر التى اختلجته عندما خرج من مدخل الكبسولة على هذا الارتفاع الشاهق حيث قال للصحفيين: (عندما تقف هناك عند قمة العالم، تشعر بتواضع كبير، فأحيانا يجب الصعود عالياً لنعرف كم أننا صغار) وتلك العبارة تحديدا أحب أن أهديها لعلمانى مصر والذين يحاولون خداع الجماهير بكون العلم سبباً لتكبر الإنسان على خالقه وعلى شريعته.. بينما الحقيقة أن العلم سبب أدعى لتواضع الإنسان لخالقه العلى العظيم.. وتسليمه بأن خالق هذا الكون هو الخبير به وبما ييسر الحياة فيه.. وأن شريعة الله الحكيم الخبير هى ما نحتاجه لنعيش حياة متوافقة مع كل ما خلقه الله.. منسجمة مع مخلوقاته.. منتظمة مع كل دقيقة وكبيرة فى هذ الكون الفسيح. قال تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}(سورة المائدة 44). كم نحن صغار أمام عظمتك وقدرتك يا الله.. وكم نحن فى حاجة لشريعتك الغراء ومنهجك القويم لنعود لسابق مجدنا وعزنا ونقود هذا العالم...كما قدناه بها من قبل.