مما لا يدعو مجالاً للشك أن للحرب الإسرائيلية على غزة، التي انتهت بوقف إطلاق النار بعد 15 شهرًا، تداعياتٌ عديدة على قطاع غزة وحركة حماس، بل وعلى إسرائيل أيضًا. حيث انتهت مرحلة العمليات المكثفة في قطاع غزة إلى تهدئة هشة تسبق دخول مرحلة «الوقف المرحلي» أو توسيع الاتفاقات التي تهدف إلى إعادة تهيئة الوضع الأمني والمدني في القطاع. ولعل من أبرز التداعيات السياسية المؤثرة على السياسة الداخلية لإسرائيل: أولاً، تراجع شرعية الحكومة والثقة الشعبية في الأداء الحكومي الإسرائيلي خلال الحرب، والتي ولّدت احتجاجات ومطالبات بتحقيق رسمي لوقائع 7 أكتوبر، ما عزز الانقسام الداخلي وأضعف مكانة الحكومة، كما استقال عدد من الوزراء رسميًا من مناصبهم من الحكومة احتجاجًا على وقف إطلاق النار. ثانيًا، عزلة دولية متزايدة، وتقارير أممية وإدانات وتصريحات لهيئات دولية كبري تقرّ بأن سلوك الحرب يثير تساؤلات عن الالتزام بالقانون الدولي، ما يقلص هامش المناورة الدبلوماسية لإسرائيل. ثالثًا، توتر متصاعد في الضفة الغربية ومخاوف من «الضم التدريجي»: سياسات الأمن والاقتصاد الإسرائيلية تجاه الضفة أثارت اتهامات بتعمد تآكل دور السلطة الفلسطينية، مما يفاقم الصدام ويفتح جبهات جديدة داخل الأراضي المحتلة. وكان لحرب غزة أيضًا تداعيات خطيرة على إسرائيل على المستوى الإقليمي. أهمها توقف عملية تطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية. فقد كان من آمال بنيامين نتنياهو بعد تشكيل حكومته في يناير 2022 توسيع نطاق التطبيع مع الدول العربية. وانصبّ التركيز الرئيسي على تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية. ورغم أن تطبيع العلاقات مع الدول العربية الأخرى لم يُستبعد، إلا أنه أصبح أكثر صعوبة من ذي قبل، لأن السعودية اشترطت قيام دولة فلسطينية مستقلة، وهي قضية يعارضها نتنياهو وأعضاء حكومته. وقبل حرب غزة، سعت إسرائيل، بدعم من الغرب ووسائل الإعلام العالمية المهيمنة، إلى تقديم صورة أخلاقية عن نفسها للعالم. لكن في غزة، ارتكبت إسرائيل جميع الجرائم المنصوص عليها في الاتفاقيات والمعاهدات القانونية الدولية. بلغت هذه الجرائم من الفظاعة حدًا دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى التصريح مرارًا وتكرارًا بأن ما يحدث في غزة إبادة جماعية وانهيار للإنسانية. وتُعدّ مظاهرات مئات الآلاف ضد إسرائيل في أوروبا والولايات المتحدة مثالًا واضحًا على كيفية تضرر صورة إسرائيل ومصداقيتها المزعومة على الساحة العالمية. ومن النتائج السياسية المهمة الأخرى لحرب غزة على إسرائيل على المستوى العالمي تحول قضية الجرائم الإسرائيلية إلى قضية جنائية. وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، التي تحقق في الجرائم الإسرائيلية ضد سكان غزة، مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الحرب السابق يوآف غالانت. حتى لو لم تُنفَّذ أوامر الاعتقال بسبب الدعم الأمريكي وتهديدات واشنطن للدول الأخرى، فإنها ستُسبب ضغطًا نفسيًا وشعورًا بانعدام الأمن لدى الجيش الإسرائيلي. وقد حدث هذا في الماضي. ومن التبعات السياسية الأخرى لحرب غزة على إسرائيل على المستوى العالمي تأثيرها على علاقاتها الخارجية. قبل حرب غزة، دعمت الدول الأوروبية إسرائيل دعمًا مطلقًا، لكن الإبادة الجماعية في غزة، التي أثارت ردود فعل شعبية واسعة في أوروبا، أثرت أيضًا على الدعم المطلق للدول الأوروبية. على مدار 470 يومًا، نُظمت 30 ألف مظاهرة ضد إسرائيل في أوروبا. وعلى عكس الماضي، تُصعِّب هذه الاحتجاجات على الحكومات الأوروبية دعم إسرائيل وتوسيع علاقاتها معها. على العكس من ذلك، دعمت دول مثل النرويج وفرنسا قيام دولة فلسطينية مستقلة. د. نرمين صلاح القماح مدرس الأدب العبري الحديث والمعاصر بكلية الألسن جامعة عين شمس