مازال السادس من أكتوبر 1973 العاشر من رمضان لعام 1393 يشى بحكايات النصر وبطولات الرجال لمن يريدون تحصين الوعى للأجيال القادمة، لتكون وهجا ساطعا ورافدا ثريا يفجر الطاقات الإبداعية نظما ونثرا بالكلمات وومضا بالعدسات وعزفا بالأوتار، ليملأ وجدان الأجيال القادمة فخرا وشموخا لانتسابهم لهذا الوطن الذى طالما جاد بالشجعان من رجاله، ومازال التاريخ يحفظ انفرادا للمقاتل المصرى على مر العصور، وحده المقاتل المصرى الذى كانت له التحية من عدوه، فسيذكر التاريخ على مداره تحية عدونا للبطل محمود الجيزى قناص المحجر. محمود الجيزى بطل أجبر العدو على احترامه وتحيته الشهيد البطل محمود على الجيزى، صف ظابط صاعقة بحرية.. شخصية صارمة وجادة وصاحب جسد قوى وبطل مصر فى الملاكمة.. شارك فى حربى الاستنزاف وأكتوبر.. فى حرب الاستنزاف عاد البطل بأول أسير إسرائيلى وعبر به قناة السويس وسلمه للقيادة العسكرية لاستخراج المعلومات منه.. ونفذ البطل 60 عملية ضد العدو فى سيناء أثناء حرب الاستنزاف. البطل الجيزى صاحب كمين جبل مريم 1968 الذى دمر فيه مدرعتين للعدو وقتل 6 من الضباط والجنود منهم نائب قائد البحرية الإسرائيلية ونائب مدير الموساد. وفى حرب أكتوبر 1973 كان الجيزى قائدا لمجموعة مكلفة بالدفاع عن موقع بميناء الأدبية بالسويس ضد عملية إنزال بحرى معادٍ بهدف احتلال الميناء. وبدأ الجيزى وزملاؤه التعامل مع العدو من خلال مبنى إدارة الميناء، وكان العدو مزودا بمعدات وأسلحة متطورة، وعندما أظهر الجيزى ورجاله بأسا فى الدفاع عن الميناء فجّر العدو مبنى إدارة الميناء، وفى أثناء الانفجار قفز الجيزى من نافذة الدور الثانى على الأرض فكتبت الحياة للجيزى ونال البقية شرف الشهادة.
ثم بدأ الجيزى بالزحف على الأرض حتى وصل إلى استراحة مهندسي محجر جبل عتاقة على طريق الجبل والميناء، واختبأ الجيزى فى المحجر لمدة 9 أيام لا يملك أى شىء سوى بندقية وخنجر، وبدأ الجيزى فى اصطياد الأعداء المتواجدين بالميناء. كان بيخرج كل يوم بالليل يصطاد جندى حراسة إسرائيلى يقتله ويأخد منه المؤن والسلاح ثم يعود إلى المحجر، وهكذا استمر الجيزى فى قنصه لأفراد العدو بالتتالى لمدة 9 أيام حتى قتل منهم 9 قتلى، وهو ما جعل القوات الإسرائيلية فى حالة هياج ورعب لعدم معرفتهم بقاتل جنودهم. وبدأ العدو بتكثيف البحث عن القناص المصرى الذى أذاقهم الويل والقتل، حتى اكتشفوا مخبأه باستراحة المحجر بجبل عتاقة. واستعد العدو لحصار القناص بداية من 24 أكتوبر 1973 فحاصروا موقع استراحة المحجر، حيث يعتقدون بوجود القناص، ومن خلال مكبرات الصوت نادوا عليه بلهجة مصرية للاستسلام لهم، وهنا قرر القناص أن يتحول دوره فى المعركة من القنص إلى القتال بالمواجهة، وبحساب تكيكات الدفاع عن الموقع والتى تعتمد على نسبة ( 3 إلى 1 ) أى أن تكون القوة المدافعة عن الموقع والقائمة بصد الهجوم تعادل ثلاثة أضعاف القوة المهاجمة، وبعد أن أجرى انتقالات سريعة من عدة جهات بالموقع، وتبين له عدد القوات المهاجمة من العدو تزيد عليه إلى العشرات من قوات العدو وهو الوحيد بالموقع، وهنا اختلت نظريات الدفاع، فأصر على تحويل موقفه من الدفاع إلى الهجوم فى معركة محسومة نتيجتها باستشهاده لا محال، وهو الذى أبى على نفسه الإذعان لأوامرهم بالاستسلام، فهانت له روحه أمام كرامته، وهو يعلم عنهم الكثير من آليات التعذيب والإهانة، فهم لا يحترمون المواثيق الدولية فى معاملة الأسرى، ودار كل هذا فى خلده سريعا، حتى قرر تحويل معركته الدفاعية إلى الهجومية ورسم تكتيكاته، وخطط تحركاته التبادلية من موقع لآخر حتى يتمكن من قتل وإصابة أكبر عدد من العدو، فقد قرر أن يكون ثمن روحه الكثير والكثير من هؤلاء الأعداء، وقبل أن يشتبك مع العدو كان القرار وهو من أمين، أما الأمر الأول فهو: الوفاء بالقسم والعهد الذى أقسم به كل مقاتل مصرى "ألا يترك سلاحه وأرضه إلا أن يذوق الموت"، وكان الأمر الثانى هو: أن يتبدل خوف الجبناء إلى شجاعة الفرسان وأن يقتل الموت حتى يهابه الموت"، وتلك مواريث خير أجناد الأرض التى يتوارثونها أبا عن جد حتى المصريين الأوائل وعليهم أن يورثوها للمصريين القادميين من المستقبل، تمام، هو هذا العهد من أبطال مصر منذ أن سطر التاريخ أوليات حروفه حتى يختتم التاريخ الإنسانى نصه بنقطة الفصل والنهاية. وقرر البطل المواجهة والاشتباك مع العدو فى معركة هجومية معهم وجها لوجه والتى لم يكن له أن يحدد من زمنها غير البداية، أما النهاية فكانت لقدرته على القتل وحسب طاقة سلاحه على أن يطاوعه فى القتل، وهنا كان عليه الاقتصاد فى الذخيرة لسببين، الأول: لإطالة زمن المعركة، والثانى: ليتمكن من قتل العدو دون تبديد لذخيرته، وكانا السببين بهدف قتل أكبر عدد ممكن من العدو وتلك هى الغاية والهدف للبطل، وعلى مدار 11 ساعة من البطولة المعتادة من المصريين والنادرة للعدو، سقط من العدو الواحد تلو الآخر بسلاسة منقطعة النظير من هذا المقاتل المصرى الشرس والعنيد، وأمام إهانة كرامة هذا العدو الذى كان يحصى قتلاه أمام عينه ولم يستطيع حتى أصابه المقاتل المصرى لخفة تحركه من موقع لآخر وسرعة احتلاله للمواقع الحاكمة التى اختارها بدقة متناهية لتسمح تذكرة المرمى له بقتل أكبر عدد متاح من الأعداء فى نطاق كل موقع ينتقل إليه، وأمام البأس الشديد والإصرار الصلب لوضع نهاية المعركة تحت تصرف هذا المقاتل العنيد، وامام الحرج البالغ لقائد القوة الذى استهان بفرد واحد من المقاتلين المصريين وظن انه سيقوم بنزهة اسر لهذا المقاتل الوحيد ثم اذلاله نظير ما فعله بقتلاه التسعة من جنوده، وها هو يسقط اخرين امام عين هذا القائد المتعجرف حتى اهان قدرته على الهجوم او حتى الدفاع، وهنا اضطر لاتخاذ قرار يصعب على اى قائد اتخاذه امام جنوده وهو ضرب الموقع بالمدفعية والقاء القنابل عن بعد وامر جنوده بالابتعاد بالمسافة الكافية لحماية البقية منهم من نيران المقاتل المصرى، وتلك فقط كانت النهاية لمعركة دامت احدى عشر ساعة سقط فيها العديد من العدو ما بين قتلى ومصابين اصابات بالغة اثر رصاصات البطل محمود على الجيزى، وامام وابل همجى من القنابل والقذائف ذات الاعيرة الكبيرة والتى لم تعد فى المعارك لمواجهة الافراد بل لهدم المواقع المنيعة والتحصينات الشديدة، وفى عشوائية جبانة وسلوك متوترقام العدو بإمطار القنابل على مبنى الإستراحة بالمحجر بهدف هدمه على من فيه وهو فقط مقاتل مصرى ! وتلك رواية للمعركة على لسان احد ضباطها الذى رواها بعد عشرات السنين من حدوث وقائعها واحداثها، وهو الذى لم يفوته أن يذكر أن قائده بعد أن تأكد له من هدم مبنى الاستراحة بالكامل وبعد مرور فترات من الوقت تؤكد أن من بداخلها اصبح ساكنا وهكذا سلاحه اصبح صامتا، وان تحقق له ما اراد وما عاهد وطنه عليه وهو الا يترك سلاحه حتى يذوق الموت وان يعيش شهيدا فى حضن تراب وطنه كما كان من قبل يحيى فوق ثراه, وامام تلك الشجاعة النادرة ما كان للقائد الا أن يأمر رجاله بأداء التحية العسكرية للمقاتل المصرى احتراما وتبجيلا لنموذج لم يسمعوا عنه ولم يشاهدوه من قبل !