سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مصر صانعة الصورة.. يقف التاريخ الآن ليؤدى لمصر وقائدها "التحية الإنسانية".. يتجوّل بين المواكب يلتقط الابتسامات بعد أن كان يتلقّى الرصاصات.. يتابع المباركات بعد أن كان يتابع أرقام الضحايا
سيحار كثيرًا من يريد أن يكتب التاريخ، وسيندهش ويتساءل: كيف تحوّلت مصر، التى كان ينظر إليها العالم منذ فترة قصيرة باعتبارها دولةً فقيرةً تتعثر فى أزماتها الاقتصادية وملفاتها الأمنية، إلى محطّ أنظار العالم ومحلّ فخره، ومخزون السلام الاستراتيجى فى المنطقة؟ سيحار كثيرًا من يريد أن يكتب التاريخ، لكن المصريين لن يشعروا بما شعر، فنحن على علمٍ تامٍّ ويقينٍ لا يخالطه شكّ بأن "مصر عارفة وشايفة وبتصبر.. لكنها فى خطفة زمن تعبر.. وتسترد الاسم والعناوين". هكذا قال الأبنودي، شاعر مصر الراحل والعارف بالشعب والوطن، ملخِّصًا تاريخ مصر فى جملتين كُتبتا بماء الذهب على جبين البشرية. يجتمع زعماء العالم اليوم فى شرم الشيخ، احتفالًا بنصرٍ سلمى ما كان ليتحقق لولا مصر. أعدّت مصر المائدة، وصبرت بحكمة الأهرام على تطاول هذا أو ذاك، ومشت فى طريقها الذى رسمته لنفسها بنفسها، ورفضت أن تكون تابعة لأحد؛ لا عن كِبرٍ ولا غطرسة، بل عن علمٍ وثبات، فخطّت طريق العالم نحو السلام، وسار العالم وراءها مفتخرًا. منذ السابع من أكتوبر وموقف مصر الشريف لم يتزعزع، كانت كلمتها كلمة شرف، وكانت وعودها وعود حق، وكانت حكمتها ذات صدى سمعه العالم ولو بعد حين. منذ بداية الحرب فى عام 2023 واشتعال الأوضاع فى غزة، نادى الرئيس السيسي، بكل حكمةٍ ودهاء، بمؤتمرٍ دولى لإرساء دعائم السلام، فتجاهل المخربون دعوته مرارًا، لكنها بقيت فى الوجدان العالمي، كخيرٍ يُحدثك به ضميرك، ثم شاء الله أن يستجيب الجميع فى الوقت المحدد. تحمّلت مصر الضغوط السياسية والإعلامية بصبرٍ وجَلَد، فقد أراد الجميع دفع الأوضاع إلى الخروج عن السيطرة، لكن مصر لم تندفع. أنظر الآن، بعد انقشاع دخان الحرب وتبادل التهانى والمباركات، إلى ما كان، فأشعر بفخرٍ حقيقى وسعادةٍ غامرة، وأجدنى مجبرًا على السجود لله شكرًا، لأن مصر لم تستجب لتلك المقترحات التى كان من الممكن، بل ومن الأكيد، أنها كانت ستزيد المنطقة اشتعالًا. لم تنجرف مصر إلى طريق المزايدات منذ بداية الحرب، ولم تشترك فى تجريد الشعب الفلسطينى من حقه فى المقاومة. دفعها البعض إلى قبول الأمر الواقع، لكنها لم تندفع. أسهمت بكل شجاعة فى دعم الشعب الفلسطينى بالمال والدواء والغذاء وسبل الإعاشة، ورفضت أن تكون سببًا فى سلب الفلسطينيين حقهم التاريخى فى وطنٍ يحتمون به، كما رفضت أن تمضى فى طريق الجحيم الذى حاول البعض تزيينه بالنوايا الحسنة. تألمنا لحال الشعب الفلسطينى الذى ناله من القتل والتشريد الكثير، لكننا فى الوقت ذاته كنا على إيمانٍ مطلق بأن الوطن يستحق أن نعيش لأجله ونموت لأجله، رأت مصر حروبا تشتعل ثم تنطفئ، لم تزد النار اشتعالا، وكانت كلمتها دائما تفوح بعطر الحكمة، وتتحلى بقوة الراسخين. كانت المغريات كثيرة، لكننا وقفنا أمام ذهب المعز بكل إباء، وكانت التهديدات أكثر، لكننا وقفنا أمام سيف المعز بكل شرف. كان العالم يضغط على مصر لتقول "نعم"، نعم واحدة وستنفتح خزائن الدنيا، لكن مصر قالت "لا". رفضت التهجير، ورفضت المزايدة، ورفضت من أراد توريطها فى حربٍ تجلب الخراب على الجميع، ورفضت أيضا أن يُمسّ شرفها وكرامتها الوطنية. اشتعلت الحرب فى غزة وكانت مصر صابرة، اشتعلت فى لبنان وصبرت، اشتعلت فى إيران، وصبرت، اشتعلت فى الدوحة وصبرت، وصبرت أيضا على من يحاول جرجرتها إلى حرب مباشرة مع إسرائيل بالزج بها فى آتون المعركة تحت زعم إدخال المساعدات إلى الأرض المحتلة عنوة لكنها صبرت، ولم يكن صبرها يوما عن ضعف أو استكانة، لكنه صبر تأسس على عمق رؤية وبعد بصيرة وقوة تردع من لا يعترف بسوى القوة لغة للحوار. مصر الآن كما كانت مصر بالأمس: شريفة، صبورة، قوية، حكيمة. وكما حمت مصر المنطقة العربية من أخطار الصليبيين والتتار فى الماضى البعيد، حمت الأمة العربية من التجهيز للفناء فى العصر الحاضر. هذه هى مصر، وهذا قدرها، وهؤلاء قادتها، وهذا رئيسها. يتسابق الجميع الآن للظهور فى الصورة والقيام بدور والحديث عن الإنجاز، ولولا مصر ما كانت هناك صورة ولا وزعت أدوار ولا رأينا إنجازا، يريد الرئيس الأمريكى أن يظفر بجائزة نوبل للسلام، والحقيقة أن أرض السلام أولى بهذه الجائزة، لكن حسبنا أننا نودع إجازاتنا فى خزانة الضمير الإنسانى فى حراسة التاريخ والمستقبل، والكل يعرف أن مصر صاحبة الصورة وصانعتها. يقف التاريخ الآن ليؤدى التحية الإنسانية لمصر وقائدها، ليكتب ما سيتذكّره أبناؤنا فى المستقبل بكل اعتزاز. يتجوّل بين مواكب الرؤساء، يلتقط الابتسامات بعد أن كان يتلقّى الرصاصات، يتابع المباركات بعد أن كان يتابع أرقام الضحايا، ويدوّن البشائر بعد أن كان يسجّل الخسائر. أرى التاريخ مبتهجًا بمصنع السلام ومحطّ الحكمة وبلد الصابرين، تعود بلد التاريخ إلى الصدارة مرةً أخرى. يقولون: «جاءت مصر، ثم جاء التاريخ»، فأهلًا وسهلًا "بيتك ومطرحك"