المولد النبوي الشريف ميلاد شخصية عظيمة غيرت مجرى تاريخ الإنسانية وميلاد قيم جديدة، وانبثاقًا لنور هاد، ومدرسة إنسانية متجددة، تمتد آفاقها لتتسع لكل زمان ومكان، وتبقى قادرة على إلهام الأجيال وتعليم الأمم، حيث تضع الإنسان في قلب مشروعها، فتحفظ كرامته، وتصون فطرته، وتعيد بناء وعيه بما يجعله أكثر قدرة على التوازن بين متطلبات الجسد وحاجات الروح، وبين مقتضيات الفرد والمصالح العامة، وتحرره من قيود الظلم والتيه والفراغ. ويعمق فينا قيم العدالة والرحمة والحوار، ويدعونا إلى تجاوز النزاعات الضيقة نحو آفاق أوسع من التعايش والاحترام المتبادل، ويؤكد أن بناء المجتمعات القوية يقوم على أساس التكافل والتسامح والعدل، ومن رحم هذه القيم تتشكل أجيال جديدة قادرة على حمل الرسالة الإنسانية الجامعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، رسالة تفتح أمام الإنسان أبواب الإبداع، وتحرره من قيود الظلم، وتوجه طاقاته نحو عمارة الأرض. ويترسخ الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف في استحضار القيم النبوية الخالدة التي جسدها النبي صلى الله عليه وسلم واقعًا حيًا؛ قيم الرحمة التي وسعت الخلق أجمعين، وقيمة العدل التي أقامت الموازين بين الناس، وقيمة الحرية التي حررت الضمائر والعقول من الاستعباد، وقيمة التكافل التي جعلت المجتمع كالجسد الواحد، فالمولد ينبوع متجدد للإلهام، يذكرنا بأن الرسالة المحمدية جاءت لتصنع إنسانًا حرًّا كريمًا، ولتقيم حضارة تبنى على الروح والعقل. إن استذكار السيرة النبوية هو استنهاض لقوة روحية وأخلاقية قادرة على أن تكون بوصلة لمجتمعاتنا المعاصرة في زمن التحديات والتحولات الكبرى، فالمطلوب اليوم هو تحويل هذه السيرة إلى قوة دافعة للتجديد الحضاري والوعي الأخلاقي، وتعيد الاعتبار لقيم الإنصاف والمساواة، وتقاوم مظاهر الظلم والتهميش، وتؤسس لنهضة قوامها العدل الاجتماعي، والحرية المسؤولة، والتكافل الإنساني، وبذلك يصبح الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف دعوة عملية للعودة إلى الجذور القيمية التي أنارت التاريخ، وتجديد العهد مع الرسالة الخالدة التي جعلت من العدالة والرحمة أساسًا لبناء إنسان أرقى، ومجتمع أعدل، وحضارة أبقى، وأن نكون امتدادًا عمليًا للرسالة، ونجعل من قيم النبي صلى الله عليه وسلم نهجًا يضيء حاضرنا ويهدي مستقبلنا. ولقد وضعت الرسالة المحمدية الإنسان في قلب مشروعها، فجاء الدين الإسلامي تحريرًا للإنسان من العبوديات الزائفة، وصونًا لكرامته، وحماية لفطرته السليمة التي فطره الله عليها، وهذا المعنى يجعل من المولد النبوي الشريف فرصة سنوية لتجديد الوعي بمركزية الإنسان في أي مشروع حضاري، وتأكيد أن النهضة الحقيقية تبنى على أساس تكريم الإنسان والارتقاء بوعيه وقيمه، فحين نحتفي بالمولد، نحن في الحقيقة نحتفي بفكرة الإنسان المكرم، الذي جعله الله خليفة في الأرض، وحمله مسؤولية الإعمار والإبداع، وميزه بالعقل ،والحرية والضمير، ومن ثم يأتي إحياء ذكرى المولد لتجديد العهد بحماية حقوق هذا الإنسان، ورعاية حاجاته، وفتح الآفاق أمامه كي يبدع ويبتكر ويسهم في صناعة الخير والعدل والجمال. ويضعنا استلهام هذا المعنى في واقعنا المعاصر أمام مسؤولية كبري وهي أنسنة مشاريع التنمية، وربط كل الخطط الحضارية بغاية واحدة هي بناء الإنسان وتمكينه من الحرية والمعرفة والعدالة، فالحضارة تقاس بما تضعه من قيم تصون كرامة الفرد وتتيح له المشاركة الفاعلة في نهضة المجتمع، فلابد أن نعيد الإنسان إلى مركز الفعل الحضاري، وأن نجعل من رسالته صلى الله عليه وسلم مرجعًا لبناء مستقبلٍ يوازن بين المادة والروح، ويصون كرامة البشر، ويجعل من الإبداع والعمل والإعمار طريقًا لتحقيق الاستخلاف الحق في الأرض. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مهندسًا لبناء وعي جمعي متماسك، فنجح صلى الله عليه وسلم في تحويل مجتمع مفكك تقوم علاقاته على العصبية القبلية، إلى أمة قائمة على أخوة العقيدة والمواطنة، وعلى قيم العدالة والرحمة والتكافل، واستطاع أن يزرع في النفوس وعيًا جديدًا يجعل الانتماء للقيم أسمى من الانتماء للعصبية، ويجعل من الجماعة الإنسانية كيانًا متماسكًا يتجاوز حدود الفردية إلى رحاب المشاركة والبذل والعطاء، ويحول المجتمع إلى جسد واحد نابض بالحياة، قادر على مواجهة التحديات، وصناعة نهضة قائمة على روح التعاون والتكامل. وإذا كان كثيرون اليوم يتحدثون عن أزمة القدوة في عالم يموج بالنماذج المتناقضة والمضللة، فإن المولد النبوي يقدم لنا الحل في صورة النموذج العملي، فالنبي صلى الله عليه وسلم قدوة حية وخلق يمشي بين الناس، يترجم القيم إلى سلوك ملموس، ويجعل من ذاته مرآة صافية للرحمة والصدق والإيثار، ويعد اكتشاف البعد التربوي في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم يمثل خطوة هامة في تحويل سيرته العطرة إلى مصدر إلهام حي يوجه سلوكنا الفردي، ويضيء اختياراتنا الجماعية، فالنبي كان مربيًا بالفعل، يجسد القيم في حياته اليومية، ويترجمها إلى واقع يراه الناس ويلمسونه في تفاصيل سلوكه وعلاقاته ومواقفه. وتتجلى القيمة التربوية الكبرى للمولد النبوي الشريف، في كونه ممارسة عملية لتربية النفوس على المحبة الصادقة التي تفتح القلوب على الرحمة، وعلى الصدق في القول والعمل الذي يرسخ الثقة بين الإنسان وربه وبين الناس بعضهم ببعض، وعلى الوفاء بالعهود الذي يصنع الاستقرار ويؤسس لعلاقات إنسانية قوية، وعلى الإيثار الذي يقدم المصلحة العامة على نزوات الذات وشهواتها، وهذه القيم منهج عملي للحياة، به ينهض الفرد ويفلح، وتقوم الجماعة وتتلاحم، وتُبنى الحضارة وتستمر. وإذا أسقطنا هذه المعاني على واقعنا المعاصر، أدركنا أن أزمتنا الكبرى ليست في قلة الموارد أو ضعف الإمكانات، وإنما في غياب المنظومة التربوية القيمية التي تصنع الإنسان القادر على أن يحول الإمكانات إلى منجزات، وتأتي ذكري المولد النبوي الشريف ليذكرنا بأن النهضة تبدأ من بناء الضمير الإنساني وتربية النفوس على المسؤولية، وأن الحضارة تشيد بالإنسان الذي يحمل قيمها ويجسدها، ومن ثم فإن الاحتفاء بالمولد يأتي تجديدًا للعهد التربوي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نستلهم سيرته لنصوغ مناهجنا التربوية تغرس في أجيالنا القادمة قيم المحبة والصدق والوفاء والإيثار، لتكون قاعدة لبناء مجتمع متماسك، وأمة ناهضة، وحضارة إنسانية تحمل رسالة الخير إلى العالم.