القبض على الشاب المصري "ميدو" في بريطانيا يعيد إلينا دائمًا السؤال القديم: لماذا لا تكف بريطانيا عن لعب دورها القذر مع مصر؟ ليس الأمر حادثًا فرديًا، بل حلقة جديدة في سلسلة ممتدة من المؤامرات والخيانة. من زرع الكيان الاستيطاني الإسرائيلي على حدودنا، إلى صناعة أكبر جماعة خائنة في تاريخنا جماعة الإخوان المسلمين وصولًا إلى جريمة مسكوت عنها في مطلع القرن العشرين: مأساة الفيلق المصري. في قلب الحرب العالمية الأولى، حين كانت مصر تعيش على حافة الفقر والمجاعة، وقع نصف مليون فلاح مصري في أسر أكبر عملية تجنيد قسري شهدها تاريخها الحديث. لم يكن الأمر كما وصفه الإنجليز "تطوعًا"، بل كان اختطافًا كامل الأركان. عمدٌ وشيوخ قُرى يجمعون الرجال من الحقول، تُساق الجموع إلى معسكرات لا يعرفون نهايتها، ثم تُلقى بهم في جبهات القتال، غرباء في بلاد لا يدركون خرائطها ولا لغاتها. ذهب الفلاحون المصريون إلى حيث لم يذهبوا يومًا: إلى خنادق فلسطين وسوريا، إلى معسكرات فرنسا واليونان. كانوا يبنون خطوط السكك الحديدية، يحفرون الخنادق، يحملون الطوب على أكتاف أنهكها الجوع، فيما السياط تنهال على ظهورهم كلما تهاوت خطواتهم. لم يكن ثمة سلاح بأيديهم، بل مجرد أجساد تُستنزف لخدمة آلة الحرب البريطانية. يوثق الدكتور محمد أبو الغار في كتابه الفيلق المصري هذه المأساة المنسية قائلًا: "قُتل منهم حوالي خمسين ألف فلاح… وكان سوء معاملة الإنجليز وضربهم بالكرباج وإهانتهم سبباً في غضب عارم." خمسون ألف إنسان عادوا إلى التراب من دون أن يُكتب اسمهم في سجلٍّ من سجلات الشرف. نصف مليون غُيبوا عن الأرض فذبلت المحاصيل، ارتفعت الأسعار، وحلّت مجاعات ضربت الريف المصري في الصميم. لم تكن الخسارة أرقامًا فحسب، بل كانت ملامح بيوتٍ بلا عائل، وحقولًا بلا سواعد، وأطفالًا فقدوا آباءهم على أراضٍ بعيدة. ومن قلب هذا القهر خرج صوت مصر الشعبي البسيط، يدوّن المأساة على هيئة أغنية. لم تكن قصيدة ولا خطابًا سياسيًا، بل لحنًا عابرًا للغيطان: "يا عزيز عيني وأنا بدي أروح بلدي بلدي يا بلدي.. والسلطة خدت ولدي" هذه الكلمات لم تكن مجرد غناء، بل شهادة. كل جملة فيها كانت اعترافًا قاسيًا بأن الفلاح المصري صار عبدًا في حرب ليست حربه. الأغنية التي تناقلتها الألسن صارت وثيقة شعبية، أكثر صدقًا من كل الروايات الرسمية التي حاولت التعتيم على الحقيقة. ولأن التاريخ لا يرحم، كان لهذا الجرح أثر بالغ. الفيلق المصري لم يكن مجرد صفحة منسية، بل كان شرارة أساسية فجرت غضب الريف، وصنعت أحد أهم منابع ثورة 1919. فحين يُساق الفلاح بالسوط، ويُلقى في خندق بعيد عن أرضه، ويُحرم من حقه في الحياة، يصبح الغضب لغة وحيدة. إن استعادة قصة الفيلق المصري اليوم ليست مجرد وفاء للضحايا، بل هي أيضًا فعل مقاومة ضد النسيان. لأن بريطانيا التي خطفت أبناءنا بالأمس هي ذاتها التي ما زالت تعبث بمصائرنا اليوم، تارة بزرع كيان استيطاني، وتارة بصناعة جماعة خائنة، وتارة بامتهان كرامة شاب مصري بعيد عن وطنه. الذاكرة هنا ليست ترفًا، بل درعًا في مواجهة عدو قديم لا يتغير.