ما زلنا مع الحديث عن كيفية التعامل مع تاريخ الحضارة المصرية القديمة، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة.. "المصريون القدماء كانوا يعبدون ملوكهم، والملك كان طاغية متجبرا لا يُسأَل عن أفعاله". ما أن أسمع هذه العبارة "الكليشيه" من البعض، حتى أجدنى أزفر بضيق وأنا أتمتم "ها قد عدنا لهذا الهراء من جديد!" فضلا عن أن لدى مشكلة حقيقية مع أولئك الذين يتعاملون مع التاريخ ب "الكليشيه" و"الصورة النمطية"، ويرددون كالببغاوات عبارات محفوظة ثابتة يقولونها وهم يهزون رؤوسهم للتظاهر بالعمق والحكمة، وأتحدى أن يكون أحدهم قد قرأ كتابا واحدا فى التاريخ، فإن هذه العبارة بالذات ينفيها التاريخ المصرى تماما.. دعونا نتناول الشِق الأول من تلك العبارة المستفزة، ألا وهو: عبادة الملوك.. فى حضارات العالم القديم، آمنت الشعوب أن الآلهة بعد فراغها من خلق العالم والبشر، أنزلت الملوكية، واختارت الآلهة ملوكا يمثلونها على الأرض، ويقومون بدور دنيوى هو الحكم وإدارة الدولة، وآخر دينى وهو إقامة الشعائر والعبادات وإنشاء المؤسسات لرعاية عبادة آلهة البلاد، من هنا ظهرت فكرة "الملك الكاهن"، ففى العراق القديم مثلا، كان الملوك الأوائل يمارسون المُلك والكهانة ثم ظهرت طبقة الكهنة التابعة للمعابد، وفى اليمن القديم عُرِفَ الملك ب "المكرّب"، أى "المقرب من الإله"، حتى انفصلت السلطتان الدنيوية والدينية.. هذا الجمع بين الصفتين -الدنيا والدين - لم يكن بالغريب على مراحل حضارية بشرية لاحقة، مثل بعض ملوك أوروبا الذين آمنوا ب "الحلق الإلهى للحكم". بل ولقد عرفته الحضارة الإسلامية نفسها، فالفاطميون مثلا كان خلفاؤهم أئمة معصومين، والعباسيون كانوا يصفون بعض خلفائهم أحيانا بأنهم "ظل الله على الأرض"، بل وكانت عبارة "ظل الله على الأرض" هى الختم الرسمى لبعض سلاطين العثمانيين. وفى مصر القديمة التى تمتعت بمنظومة إدارية ضخمة ومتطورة ومُحكمة، أصبح الكهنة هم من يديرون الحياة الدينية، ولكن كنواب عن الملك فى ذلك، وإن كان الوضع الفعلى للعلاقة بين "القصر" و"المعبد" قد تطور خلال عصر المملكة المصرية الحديثة، حتى نافس الكهنة الملوك فى النفوذ بل ووصل بعضهم للعرش فى مراحل الاضمحلال الأخيرة. والملك المصرى القديم لم يكن إلها بمعنى الكلمة، أى أنه لم يكن يُنظِر إليه باعتباره "خالقا ومدبرا للكون"، وإنما كان يمثل التجسيد البشرى الذى ينوب عن الإله حورس، وكان يمثل كذلك الابن الروحى للإله رع - إله الشمس - وبعد وفاته كان يُلحَق بالإله أوزيريس - إله العالم الآخر وقاضى محكمة الآخرة - فيقال له "أوزيريس فلان" كما نقول حاليا "المرحوم فلان"، وفى مراحل لاحقة - المملكة الحديثة - كان الملك بمثابة الابن لآمون، فكان المصريون يؤمنون أن الإله قد زار الملكة الأم متجسدا فى هيئة الملك الحالى، وحملت منه بذرة الملك القادم - ولى العهد - وهى القصة التى نجد مثلها بتفاصيل مثيرة على جدار معبد الدير البحرى بالأقصر، الذى بنته الملكة حتشبسوت، ولكن حتى تلك البنوة لا تجعل من الملك إلها، بل ذاتا مقدسة. إذن فمكانة الملك كانت "مقدسة" وليست معبودة، وفارق كبير بين العبادة والتقديس. لا يتناقض هذا مع حقيقة إقامة المعابد لعبادة بعض الملوك، ولكن هذا كان يجرى بعد وفاتهم، كالملك خوفو الذى أقيم معبده فى حياته ثم أكمله الملك خفرع ليقدس فيه خوفو كتجسيد لألوهية الشمس، أو الملك سنوسرت الثالث الذى أقام له الملك تحتمس الثالث معبدا لتكريمه فى جنوب المملكة المصرية القديمة بعد وفاته بقرون، اعترافا من تحتمس الثالث بفضله على أمن مصر.. ولم يقتصر الأمر على الملوك بل وقد أقيمت منشئات لتقديس بعض الملكات المصريات مثل الملكة توتيشيرى أم الملك الشهيد سقنن رع والملكة إياح حتب أم الملك أحمس، وهذا لدورهما فى النضال ضد احتلال الهكسوس. هذه المعابد كانت أشبه بما يمكن أن نصفه الآن بمقامات القديسين والأولياء - معفارق أن القديسين والأولياء لا يُعبَدون - لكنها لم تكن لعبادتهم فى حياتهم. ماذا عن الشِق الآخر من العبارة سالفة الذكر؟ وأعنى "الطغيان والجبروت". القارئ فى نظام المُلك المصرى القديم يدرك أن إيمان المصريين القدماء بأن الآلهة قد اختارت لهم ملوكهم، هو إيمان ب "التكليف" وليس "التشريف"، فالملك مُكلف من قِبَل الآلهة بمهمة مقدسة هى حماية "الماعت"، والماعت هى فلسفة مصرية قديمة تجمع بين صفات "العدل والحق والإنصاف والتوازن" وتهدف لتحقيق نتيجة هى "الاستقرار" سواء على المستوى الشخصى أو العائلى أو المجتمعى أو السياسى أو الكونى، فالملك هو "حامى الماعت"، ولكى يتحقق ذلك عليه أن يراعى صفات الماعت فى شخصه وفى أسلوب إدارته للدولة، وإن قصر فى ذلك أو خالفه فإنه مهدد - كما تقول بعض النصوص القديمة - بأن تختار الآلهة غيره ليقوم بالأمر، وهو ما كان المصريون يفسرون به سقوط بعض الأسر الحاكمة وإقامة أسر جديدة من خارج البيت الملكى. والقارئ لوصايا وحكمة المصريين القدماء يجد وصايا من ملوك لأبنائهم أن يتحروا العدل والحق وأن يجيدوا اختيار أعوانهم، وتربط تلك النصوص عظمة الملك ونجاحه وخلوده ذكره الحسن بأن يحسن تولى الأمانة الإلهية، كوصايا والد الملك مريكيرع لابنه مثلا، فهل لو كان الملوك المصريون يحكمون باعتبارهم آلهة معصومة لا ضابط لها ولا رابط، كنا سنرى مثل تلك الوصايا؟ وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم.