في عام 2016، وفي أثناء زيارتي إلى مملكة البحرين، كان من بين أهم المحطات التي لفتت انتباهي تلك البيوت التراثية التي خضعت لعمليات ترميم وتأهيل مكثفة، لتتحول من مجرد مبانٍ قديمة إلى وجهات سياحية نابضة بالحياة، لم تكن هذه مجرد مشاهدة لمبانٍ تاريخية، بل كانت تجربة تُظهر كيف يمكن للوطن أن يبحث في جذوره عن ما يثري هويته، ويعيد إحياءها بطريقة عملية ومستدامة. هذا المشروع، الذي قادته الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، لم يقتصر على تحويل البيوت إلى متاحف صامتة، بل أعادها إلى الحياة، مما يمثل نموذجًا ناجحًا في الحفاظ على التراث والاستفادة منه اقتصاديًا وثقافيًا. تجربة الشيخة مي في البحرين تعكس فهمًا عميقًا لأهمية التراث المعماري بوصفه جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية، فمن خلال مشروعها، قامت بإعادة تأهيل ما يقرب من 30 بيتًا تراثيًا، ولم تكن هذه العملية مجرد ترميم شكلي، بل شملت دعوة أهل هذه البيوت للعودة إليها، مما أضفى عليها بُعدًا إنسانيًا واجتماعيًا مهمًا، وبدلًا من تركها عرضة للاندثار، أو هدمها بحجة التطوير، تم تحويلها إلى وجهات سياحية تستقبل الزوار من كل مكان، مثل "بيت الشيخ عيسى" و"بيت سيادي"، مما أسهم في خلق حراك ثقافي واقتصادي في المناطق المحيطة بها. هذا المشروع يتماشى مع فكرة أن البحث عن جذور الهوية وتقويتها لا يرتبط دائمًا بضرورة مرور 100 عام على الأثر لاعتباره تراثًا يستحق الحفاظ عليه، فالتراث المعماري هو رابط مهم بين الأجيال، يربط الإنسان بأرضه وبتاريخه الثقافي، ولم يكن الحفاظ على هذه البيوت رفاهية، بل هو ضرورة لحماية الذاكرة الجماعية للأمة، كما تُظهر الأرقام أن هذا النهج يمكن أن يكون مجديًا اقتصاديًا، حيث يسهم في جذب السياحة، مما يوفر فرص عمل جديدة ويعزز الاقتصاد المحلي. لقد أثبتت تجربة البحرين أن الحداثة والتحديث لا يتعارضان مع الحفاظ على التراث العقاري، بل على العكس، يمكن أن يكون التحديث وسيلة لإعادة إحياء هذا التراث، وإدخاله في نسيج الحياة المعاصرة بطريقة تضمن استمراره، فمن خلال استخدام التقنيات الحديثة في الترميم، يمكن ضمان سلامة هذه المباني وقدرتها على استيعاب الاستخدامات الجديدة، سواء كانت متاحف أو مقاهي أو أماكن ثقافية، وهذا التوازن بين الأصالة والمعاصرة هو ما يميز هذا المشروع، ويجعله نموذجًا يُحتذى به في المنطقة. إن قيمة البيوت التراثية لا تكمن فقط في أحجارها وأخشابها، بل في القصص التي تحملها، وفي الذاكرة التي تحفظها للأجيال القادمة، ومن هنا فإن مشروع الشيخة مي بنت محمد آل خليفة يمثل أكثر من مجرد ترميم معماري، إنه مشروع لإعادة كتابة التاريخ وإعادة إحياء الذاكرة، والتأكيد على أن الهوية ليست شيئًا جامدًا في الماضي، بل هي نهر متدفق يغذي الحاضر ويستلهم المستقبل، وهو المشروع الذي يمكن الاحتذاء به خاصة في البلاد التي تمتلك إرثا معماريا حضاريا يمكن استغلاله لدعم الهوية والاقتصاد الوطنيين بما تتفرد به ذاكرتنا، وربما لهذا يمكن الحديث عن تراث حسن فتحي بوصفه أحد مسارات هذه العملية في حديث قادم.