ثلاث وسبعون سنة وما يزال الحدث طازجا من كل جوانبه، وبالرغم من محاولات تخطّيه أو افتراض أن الزمن والوعى العام تجاوزاه بالكُليّة. وإذ يرى البعض فى تجميد اللحظة تعبيرًا عن عقلية سلفية؛ فإن من معانيها ربما أن التحديات على حالها، والأسئلة الكُبرى باقية أو مُتجدّدة، فيما تفعل الأيديولوجيا فعلها الردىء فى كثير من المقاربات الراهنة شكلا، والماضوية فى البواعث والمضامين. تدوس الأيام على الوجوه والأرواح؛ لكنها لا تعبر من العقول للأسف، أو هكذا يبدو مع طيفٍ واسع من الوقائع والأحداث المفصلية. لهذا؛ لا عجب أن يكون الثالث والعشرون من يوليو مناسبة سنوية مُتكرّرة للصخب من الناحيتين: أعراس واحتفالات ملوّنة كما لو أنها لم تتقادم، ونشيج ولطميات مُكثّفة كأن صنّاعها ومريدوها من الدم الملكى أو عائلات الإقطاع القديم. ولمَّا تُفهَم أبعاد الهزّة الزلزالية بعد، أو تُقرأ على وجه دقيق؛ لكنه التشجيع والتنابذ على طريقة جماهير المُدرجات فى المباريات الكرويّة. أراها ثورة مكتملة ولها ملامح الهبّات الشعبية، ويُصر آخرون على كونها انقلابا عسكريًّا. فيما يقف تيَّار ثالث على الفاصل الرمادى، فى محاولة للتوفيق ولضم المقدمات بالنتائج، باعتبارها مُبادرة من الجيش تلاقت مع إرادة الشارع وتحصّنت بها. أما الحقيقة الوحيدة فى الأمر أنها كانت سياجا عاليا بين مرحلتين متضادتين تماما، وبدّلت فلسفة الدولة وهياكلها، وأعادت تأسيسها من منظور مُغاير، وبالاستناد إلى عقد اجتماعى وسياسى جديد. لم يكُن الصراع على السلطة فحسب؛ بل على الكيانيّة نفسها، والعلاقة بين مكوناتها ومع الآخر القريب والبعيد. كان على استكمال بلورة الهويّة الوطنية التى تعثّرت كثيرًا منذ التماس أولى خيوطها مع تجربة محمد على نفسه، وإلى الاختصام فيها مع أحفاده لاحقا. كان صراعا على تصحيف المعادلات الظالمة وإلباسها رداء عصريًّا، والإبقاء على الفساد والاستتباع والزبائنية ضمن صور مراوغة، وفى إطار توافقات استعاضت عن الكلّ بالجزء، واشتغلت بقصدٍ على تحييد الغالبية بتوسيع حزام الأقلية نسبيًّا. وبعيدًا من الاختلاف فى التفاصيل؛ فإن الخطوة الأولى على طريق يوليو بدأت من عرابى. وليس ذلك لشىء إلا أن الجيش كان أول التشكيلات الدولتية الناجية من سيولة العصور الوسطى وامتداداتها من المماليك إلى العثمانيين، وأول ما تبلورت فيه مفاهيم الوطنية المصرية مع احتياج الوالى لقوّة تُكاتف المشروع، واضطراره إلى التزحزح بها من مُرتزقة الخارج إلى مواطنى الداخل. ربما كانت المطالب فئوية؛ لكنها كانت نابعةً بالأساس من اختلال العلاقة بين المواطن والوافد. وقد جرى الاحتيال عليها من شبكة المصالح القديمة، وبمعاونة الاحتلال واستدعاء لندن بديلاً عن الباب العالى فى اسطنبول. ومن هنا كان الجيش ميدانًا لإبراز التناقضات على أفدح صورها؛ إذ لا يستنكف الآخذون بخناق الدولة أن يكسروا أهم دعائمها؛ لو تعارضت مع مصالحهم. العرش لا يرى نفسه خارج سياق الوكالة، ومتأهب دائمًا لخدمة سادته، عثمانيين كانوا أم بريطانيين، أما المواطنون فإنهم مشمولون بالصفقة طبعًا، ولا يُرتِّب انتماءهم للبلد إلا مزيدًا من الأعباء، ومن دون حقوق أو مفازات. انطفأت الغضبة وقتها، إنما تسرّب منها شىء إلى الثقافة والسلوك العام. ومن هذا السرسوب الضئيل نشأت الرغبة فى المقاومة، ثم تجسّدت فى أفكار وتنظيمات، وعبرت الموانع والمُنغّصات وصولاً إلى ثورة 1919، وكانت فى ظاهرها قفزةً ضد الاحتلال، وفى جوهرها اشتباكا عميقا مع النظام السياسى بوجه عام، ذاك الذى استجلب المُحتلّ أوّلاً، أو عجز عن التصدِّى له قبل أن يتعايش معه ويُطبّع أحواله على أنه باقٍ إلى الأبد. لم يكُن متوقَّعا من أى وجه أن ينتفض القشلاق مُجدَّدًا، أو يتكرر التمرُّد من داخل الثكنات. استُوعب الدرس بطبيعة الحال؛ فضُرب حصار خانق على الجُنديّة وهيراركية الجيش والنفاذ إلى مستوياته العليا. انتقلت الراية إلى المجال المدنى بحُكم الضرورة؛ إنما على معنى الامتداد والاتصال وتكامل الأدوار، وليس على معنى القطيعة أو الاستبدال واستغناء أحدهما عن الآخر. كان الفاصل بين الشارع والجيش مُجرّد تفصيل فى المظهر فحسب، وكلاهما يتبدَّل على الصورتين تحت الغائية نفسها: الجميع رعايا لا مواطنون، ويخدمون أجندة لا تنبع منهم أو تتقاطع مع مصالحهم أصلاً. وإذ تعطّل جنود البيادات والبزّات العسكرية؛ فقد نشط جنود الطرابيش والجلابيب، واضطلعوا بمهمتهم وفق ما تتيحه المرحلة وتسمح به التوازنات. أنجز المدنيون حصّتهم من تجربة التدرُّج والبناء المُتراكم. اعتُرف بالمصريين نسيجًا واحدًا تجمعه لواصق وتشابهات عميقة، وانتُزِعت مُكتسبات حقيقية وإن بقيت زهيدة. دستور فانتخابات فحكومة تُعبِّر عن ناخبيها؛ صحيح أنها ظلّت موضع احتيال من طبقة الحُكم والاحتلال؛ لكنها ترقّت وارتقت بالمشروع الوطنى بقدر طاقتها، وأفادت فكرة الدولة ومؤسساتها، بما فيها الجيش، وعندما اختنقت بالحصار أو عجز التجربة عن التطوُّر، كان طبيعيًّا أن تنتقل الراية إلى الجناح الثانى. الفصل هنا مُصطَنَع ومشبوه؛ لأننا لم نكن إزاء هويّة ناضجة وناهضة تماما، ولا على كفِّ دولة حديثة تعرف توازن السلطات وتضبطه بالسياسة والقانون. لم يكن الأمر إلا ورشة بناء من الصفر، ومُجتمَعًا مُضيَّعًا يتلمّس أولى خطواته على طريق التضامّ والانبعاث من رماد الزمن الغابر أولا، ومن تحت رُكام التطويع والمؤامرات الجاثمة على صدور الجميع. أخذ الجيش عقودًا ليقبض على الجمرة، ثم ألقى قبسًا منها إلى حاضنته الشعبية العريضة، وكلّما توهّجت الثانية كان الأول يتعافى ويشتدّ عوده. كأنه أضاء مصباحا فى طريق الناس، ثم مشى فى نورهم بعدما تعرّفوا لأنفسهم وأوقدوها مصابيح أخرى بلا حصر. شرارة أيقظت الشعور الوطنى، ثم تكفّل الاتصال ثنائى الاتجاه فى تعظيمهما معًا، إلى أن فرضت الظروف أن يأخذ الأكثر جاهزيّة منهما بزمام الأمور. لم تنشأ النضالات المدنية من فراغ مُطلق؛ بل كانت امتدادًا لمدنيّة حمل لواءها عرابى والبارودى وغيرهما من رجالات العسكرية الأوائل. وعليه؛ يُرَدّ الفضل فى إنشاء السياسة وتنشيطها إلى مُغامرة القوّة ولو أُحبِطَت مُبكّرًا. ومحاولة الإيحاء بانقطاع المسارات عن بعضها؛ إنما تقفز على حقيقة أن مصر والمصريين كانوا فى حقبة خلقٍ وابتكار، ولم يكونوا فى حال انتقال طبيعى بين الأطوار. وعلى وفرة ما قدّمته الطبقة السياسية بعد 1919؛ فإن المنظومة لم تكُن مثالية على أيّة حال، وتعرضت لاختناقات ومحاولات التفاف عليها من خارجها، وإلى أمراض واعتلالات طرأت وأخذت تتضخم فى داخلها، ولم يكُن مأمولاً منها أن تُنجز القطيعة الكاملة مع سياقها المُختلّ تحت لافتة الثورة، ولا أن تستكمل مسيرة الإصلاح وقد قُبِض على مفاتيحها وصار مُتحَكَمًّا فيها بالكامل. سار الزمن ظاهرًا فى مسار خطّىٍّ؛ لكنه فى الواقع كان لولبيًّا أو متقوقعًا فى حلقات مُتداخلة تُشبه الدوّامة، وتتبدّل بين مدٍّ وجزر فى حيِّز ضيق وشديد الانسداد. وطوال ثلاثة عقود تالية لم تتبدّل الأوضاع كثيرًا، جاء سعد زغلول بإرادة شعبية كاملة، وبعد عشرين سنة عاد خليفته النحاس إلى الحكومة على دبابات الإنجليز فى حادثة 4 فبراير 1942. والأخير أبرم مُعاهدة 1936؛ ثم اضطر بنفسه لإلغائها بعد خمس عشرة سنة. بُنِى النظام ليكون تنويعة على سُلطة الأقلية، وسرعان ما انتقى رجاله وأبَّد وجودهم، وتحوّل الساسة إلى طبقة مُغلقة على ذاتها، بدلاً من أن تكون شريحة أفقية مُمثّلة لكل الطبقات والمكوّنات. صُمِّمت قوانين الانتخاب لتمرير فئات بعينها وإبعاد الباقين، واحتفت بالتنسيب أو الملاءة المالية أكثر من اعترافها برابطة المواطنة وقدسيّتها. وما من مفارقة أكبر من أن أضخم مبادرات حكومة الوفد فى أواخر عهدها عن «مكافحة الحفاء». ولا أقصد التعميم أو الحطّ تمامًا من المرحلة؛ إذ لا يُنكَر أنها أحدثت تحوّلات اجتماعية وثقافية عديدة، وفى التعليم وبعض المجالات الخدمية أيضًا؛ إنما ظلّت محدودة ومؤطّرة بتوازنات النظام القائم، وضمن رؤية يتغلّب فيها النمو على التنمية، وتُسيَّج المكونات بكوابح تُرشِّد الحركة وفرص العبور والترقّى الاجتماعى. فإمَّا أن تكون إقطاعيًّا ثريًّا لتملك مئات الأفدنة وتأمين الانتخابات ونفقاتها، أو تخوض مسارًا طويلاً وشاقًا فى دواليب البيروقراطية، وغالبًا ما يُكتَشَف سريعًا أن الطريق مسدودة، ورحلة الصعود مسقوفة بما لا يسمح للزاحفين على بطونهم فيها بانتصاب القامات. بالاقتناع أو التورّط؛ صار أغلب الطبقة السياسية أقرب للقصر من الشارع. بدا الاحتلال وشمًا لا يزول، واستنفد النظام إمكانات تطوّره من داخله بالكامل، وما عاد من أملٍ إلا فى الخروج عليه أو نسفه من الجذور. لكن سياق 1919 لم يعُد قابلاً للتكرار؛ لأن قطاعًا عريضًا من النخبة باتوا شُركاء فى لعبة التطويق والإخصاء، والبقيّة عاطلون أو مُعطَّلون قصدًا عن الاضطلاع بأدوارهم فى التسييس وإيقاظ الوعى وإثارة طاقة الغضب الفعّالة. تغيّرت المنطقة حولنا من سايكس بيكو ووعد بلفور، ثم سان ريمو والانتداب البريطانى على فلسطين وتنشيط الهجرات الصهيونية. إعادة تركيب قطع البازل المتساقطة من جيوب الامبراطورية العثمانية فى الشام، والخروج من الثورة العربية الكُبرى إلى سباق لاهث بين الإمارات والممالك التى لا تقوم إلا لتتداعى. إعلان الجمهورية فى سوريا، وتجارب الشريف حسين وأبنائه فى العراق وشرق الأردن، مرورا باستحداث الجامعة العربية بديلاً وقتيًّا عن أوهام الخلافة الإسلامية، ووصولا إلى لقاء البارجة كوينسى بين روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود فى البحيرات المُرّة، ثمّ الهزيمة أمام عصابات اليهود فى 1948. كان الإقليم بكامله يتقلّب على النار، فتنضج بعض أطرافه وتتفسّخ عن بعضها، فيما لا يتوقف التقليب والكىّ فى كل الأنحاء. بدت مصر السباقة دومًا متأخّرة عن مُحيطها، وعاجزة عن استيعاب التغيّرات أو التفاعل معها. حُبِسَت فى قمقم خانق، عُطِّلَت به عن لعب الأدوار القيادية المنوطة بها فى محيطها، بل وعن الوفاء بالتزاماتها تجاه نفسها وطموحات مواطنيها أوّلاً وأخيرًا. حركة الضباط فى يوليو 1952 كانت ضرورة ظرفية لا بديل عنها، ولم يكُن مُمكنًا أن تتأخّر طويلاً عن هذا، ولا كانت الطبقة المدنية الشريكة فى الحُكم جاهزةً لها أو مقتدرة عليها. اضطلع الشباب الذين وُلِدوا فى أجواء ثورة 1919 أو تنفّسوا هواء الآمال العريضة بعدها، بمهمّة الاستدراك على خلل التجربة الذى عاينوه من قُرب، وعلى محاولة عرابى التى أُجهِضَت قبل ولادتهم؛ لكنها انتقلت إليهم بالجينات وبما تبقّى منها فى الخطاب أو انعكس على الهويّة الوطنية الجامعة. الاستنجاد بالعلم لن يقود إلا لتعريفها بصفة الانقلاب؛ لكن الاستناد إلى الواقع وقراءة السياق فى تركيبه وشموليّته قد لا يقبل هذا الاختزال المُخلّ. وليس هذا لأن تجربة النهضة المصرية مع محمد على بُنِيّت على أكتاف الجيش بالأساس، ولا لأن دولاً عديدة بزغت من رحم مؤسساتها العسكرية وتأسَّست على البندقية وصرامة الجنرالات؛ إنما لأن ضباط يوليو كانوا أكثر اتّصالا بالشارع من ساستها، وأشدّ استشعارًا لمرارة الهزيمة والتقزيم من السلطة الملكية والمُنتخبة على السواء، وثاروا على قادتهم قبل أن ينقلبوا على الحكومة والملك. أغلبيتهم كانوا مُسيّسين ومُنخرطين فى فعاليات عِدّة، من أقاصى اليسار إلى أطراف اليمين شديد المحافظة بنكهته الإسلامية الأصولية. وبعضهم لهم تجارب فى العمل السياسى والسرىّ، وفى فعاليات الاحتجاج والرفض التى عرفتها مصر فى السابق؛ حتى أن جمال عبد الناصر نفسه كان بين الموقوفين فى مظاهرات الطلبة الشهيرة فى منتصف الثلاثينيات. أحدث الضباط الخلخلة المطلوبة لتركيبة مُتكلّسة وكانت أقرب إلى الموات. هبّ الشارع محتضنا ومُواكبًا، وتجسّدت العلاقة العضوية فى الرضائية الكاملة بالقطيعة مع القديم، والترحيب المُغتبط باستحداث الجديد. صِيغَ عقد اجتماعى مُتقدّم، وإذا اختلفنا عليه لأسباب شتّى من الأيديولوجيا والانتماءات الأوّلية، فلا خلاف على أنه أصاب نقطة الاقتناع لدى الجمهور العريض، وصار النظام المُستحدَث فى حماية جيوش المواطنين الهادرة، لا وراء دبابة ولا تحت ظلال البنادق. ربما ارتبكت التجربة السياسية التالية، أو انحرفت وتورّطت فيما كانت تأخذه على السابقين. لم تُصِب حظًّا من الديمقراطية، وخلعت رداء الليبرالية لصالح اشتراكية آلت إلى رأسمالية دولة. وهامش النقد يتّسع لما هو أكثر؛ إنما لا يلغى هذا من قيمة الحدث المؤسِّس وأهميّته، وأنه كان حقيقيًّا وإجماعيًّا فى وقته، بل وضروريًّا أيضًا. أمّا الاختصام فى يوليو إلى الآن؛ فإنه يعود غالبًا إلى النوستالجيا المعهودة مع كل زمن قديم، مع ما يُخالطها من أوهام شائعة عن الحقبة الليبرالية، التى كانت فى حقيقتها أقرب إلى الأوليجاركية والحُكم البرجوازى المُطَعّم بفئة من المُنتفعين والانتهازيين وذوى المصالح العائلية أو الخاصة. والنقطة الأهم؛ أن سخونة اللحظة التى انقضت قبل سبعة عقود، ربما تُعبِّر من طرفٍ خفىٍّ عن عِلَل المنطقة المتوارثة، وعن استشعار أهلها لأن زمنها لا يمضى بوتيرة عادية، فيما تتقافز أزمنة الآخرين وتعبُّر امتحاناتها بتوثُّب لا يهدأ ولا ينقطع. تسلّمت مصر الناصرية زمام أمرها فى سياق إقليمى مُلتهب، وبعد كل هذه السنوات ما تزال المُعادلة فى طَورها البدائى. إمارات وممالك تتشكَّل وتتهدَّم دون منطق أو ضرورة، وخرائط سائلة أو مُفتَّحة البطون، وأعداء منفلتون اليوم كما كانوا أمس، وأطماعهم صاخبة كأن السنين ما زادتها إلا تأجُّجًا واشتعالاً. ليبيا مُضيّعة بين أهلها، وارتدّ اليمن لحقبة بدائية أسوأ من تجربتها الإمامية، ولبنان لا يقع على تعريف لنفسه مُتعثّر فى المتصرفية والجبل ولبنان الكبير، وسوريا تتفكّك إثنيًّا وعقائديًّا كما كانت فى زمن سايكس بيكو، ويُنتَدَب لإدارتها فصيل أسوأ من كل المُختصمين على لحمها فى أردأ الحقب السوداء. ربما يتوهّم البعض أن الشجار على يوليو قد يُعيد الزمن إلى الوراء، ويردُّ الخرائط لِمَا كانت عليه. أحفاد يبكون على أطلال إقطاعياتهم، ونخبويون من عادتهم التعالى على جمهورهم والإغراق فى النظريًّات دون مقدرة على تجسيدها أو توقيعها على الأرض. أُصوليّون يعبدون الماضى بالبديهة، أو تقدّميون لم يُخطَروا بسقوط الاتحاد السوفيتى وانقلاب الصين على تراث الرفيق ماو. حالة سلفية كاملة تتجسّد فى المواسم والأعياد، وفى كل استطراد على حاشية مُناسبة مضت أو ذكرى صارت فى عُهدة التاريخ، وضمن مزيج الهويّة والشعور القومى بالدرجة نفسها. كانت يوليو استجابة الطليعة فى زمنها لهذا الزمن وتعقيداته. وربما السؤال الأهم عن طبيعة الطبقة السياسية وقتها، وعجزها عن الإصلاح أو التغيير، وانكشافها لدرجة أن تغيب الطلائع المدنيّة وتبرز النُّخب المؤهّلة للحظة والقادرة عليها من معسكرات الجيش. يوليو كان إعلانا بضعف الحالة المدنية ورخاوتها، وبعدم قدرة المتصدّرين لها على إنجاز أدوارهم الواجبة؛ وربما لهذا تُثير حفيظة البعض حتى الآن؛ لأنها تُقيم الحجّة عليهم من المتحف، وتنتصر لصُنّاعها فى قبورهم، على الموتى الأحياء من القوى السياسية والنُّخب والمُنظّرين وببغاوات الكلام الغليظ والرياضات الذهنية البائسة.