هل تثير كلمة «كِمِت» توترك؟ الحقيقة أن بقدر ما تبعث هذه الكلمة بمشاعر الفخر والاعتزاز باعتبارها الاسم التاريخى لمصر، ولارتباطها بالحضارة المصرية القديمة-الأعظم بين حضارات التاريخ القديم - إلا أن «البعض» يتفننون فى توظيفها لأغراض صدامية.
فمن ناحية نجد من يوصفون ب«أبناء كِمِت» ممن يعتبرون أن إبداء الاحترام والتقدير لحضارة أجدادنا القدماء يتطلب بالضرورة إبداء الازدراء والاحتقار لباقى الحلقات والتجارب فى السلسلة الحضارية الطويلة لمصر، خاصة تلك الحلقة العربية والإسلامية.. وهو سلوك يتسم بالحماقة لأنه يسىء للحضارة المصرية القديمة من حيث يحسب أنه يحترمها.. فحضارة مصر القديمة لا تحتاج أن توضع فى مقارنة مع أية حضارة أخرى لتثبت عظمتها.
ومن ناحية أخرى فى المقابل نجد من يفترضون أن إبداءهم الاعتزاز بالمكوّن الثقافى العربى والإسلامى فى التاريخ المصرى، يتطلب بالضرورة التعامل مع الحضارة المصرية القديمة بعدوانية واختصارها فى أنها «حضارة كافرة» أو كما قال بعض السفهاء «حضارة عفنة»، وتلخيص التاريخ المصرى القديم كله فى الربط بقصة «فرعون موسى» الذى لا يُعرَف أصلًا تاريخيًا من هو لا متى حكم، ولا أعرف كيف يمكن لعاقل أن يختصر حضارة عمرها آلاف السنين فى قصة حاكم غامض قضى على عرشه بعض السنوات أو حتى بعض العقود ثم مضى، وهم يتعاملون بتشنج مع أى إبداء للفخر بتلك الحضارة الفريدة من نوعها، وقد رأينا حالة الهيستيريا التى أصابتهم عقب حدث موكب المومياوات الملكية، حيث راحوا يرغون ويزبدون وهم يصيحون بلوثة: «نحن عرب، نحن مسلمون! أنا أجدادى هم عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد!»، بل وذهب بعضهم إلى المطالبة بعمل تحليل DNA للمصريين المعاصرين لإثبات ما زعم أنه انقطاع الصلة بينهم والمصريين القدماء!
لهذا رأيتُ أن نرد كلمة «كِمِت» لأصلها التاريخى بعيدًا عن المتشنجون والمتعصبون.
ما معنى كِمِت؟ اعتقد أن إجابة هذا السؤال معروفة للجميع: كِمِت هى الأرض السوداء، والمقصود بها الطمى الذى يحمله نهر النيل والذى منح تربة واديه خصوبتها الشهيرة، وهى التى جذبت المصريين الأوائل للاستقرار عند وادى النيل وإقامة أقدم دولة موحدة قائمة على نفس أرضها وباقية إلى يومنا هذا.
لكن هل كان «كِمِت» هو الاسم الوحيد لمصر؟ المصريون القدماء كانت لديهم أربعة ألوان رئيسية يعبر كل منها عن عنصر أساسى فى أرضهم: الأسود والأبيض والأحمر والأخضر، الأسود كان لون الطمى كما ذكرتُ، والأبيض لون أشعة الشمس «رع» التى تمنح الحياة والدفء للمخلوقات، والأحمر لون رمال الصحراء الملتهبة التى تمثل درعًا طبيعيًا يحمى الوادى من الغزاة، والأخضر هو لون الزرع وهو لون وجه الإله أوزيريس المرتبط بالخصوبة والخير.. لهذا حملت أعلامهم القديمة هذه الألوان الأربعة.
وإن كان لون الطمى الأسود قد منح مصر اسم «كِمِت» فإن لون رمال الصحراء الحمراء قد اشترك معه فى اسم آخر هو «دشر كيما» أى «الأحمر والأسود»، ف«دشر» هى الصحراء، وهى التى انتقلت إلى اللغة اللاتينية فى شكل «Deserta» بنفس المعنى، فهذا الاسم إذن يحمل النقيضين فى مصر: دشر / الصحراء هى القسوة والهلاك، وكيما / الطمى الأسود هو الحياة والخير، أى أنه اسم فيه وعيد للعدو ووعد للمسالم، وكأنه يدا الفرعون فى تماثيله التى تظهر إحداهما مقبوضة بصرامة تمثل القبضة القوية والأخرى مبسوطة بأريحية تمثل المانح للخير.
لم تقف قصة أسماء مصر القديمة عند هذا الحد، فاليونانيون الذين ربطتهم بمصر علاقات صداقة تاريخية أسهموا فى خلق اسمها باللغات الأجنبية المعاصرة. كانت «من نفر» أو «منف» هى أول عواصم مصر الموحدة على يد الملك مينا، وفى ذلك الوقت كان الإله «بتاح» هو كبير آلهة مصر، فكانت مدينة منف تُعرَف ب«حت كا بتاح» بمعنى «حائط روح بتاح» أو «بيت روح بتاح»، وقد جرت عادة وقتها أن يُطلَق هذا الاسم على مصر كلها، أو ما يشبه عكس ما يجرى من البعض حاليًا من إطلاق اسم «مصر» على العاصمة «القاهرة».
فحرّف اليونانيون الاسم «حت كا بتاح» - بسبب اختلاف نطقهم ومخارج ألفاظهم - إلى «كبتوس»، وهو الاسم الذى اشتقت منه كلمة «قبط» للدلالة على المصريين - وليس المسيحيين فحسب كام يعتقد البعض - وكذلك كلمة إجيبتوس التى تحولت إلى Egypt فى الإنجليزية وEgypte فى الفرنسية و Agypten فى الألمانية، وغيرها.
ماذا عن الاسم العربى «مصر»؟ يخطئ البعض إذ يرجعونه لأنه مفرد كلمة «أمصار»..
يذهب البعض إلى أن مصدره مصرى قديم هو «مجر» - بتعطيش الجيم - بمعنى «البلد الحصين»، أو أن بعض الشعوب السامية قد أطلقت على مصر اسم «مشيرو» نسبة لإله قديم للرياح يرتبط حاليًا اسمه بشهر «أمشير».
وفى العربية من مصادر اسم مصر معنى «المدينة الحصينة» أو «الحاجز بين أرضين».
كما قيل إن مصر من «المصير» أو «المصران»، لكثرة من صار مصيرهم إلى الحياة فيها لاجتذابها البشر باعتبارها أرضا للخير والأمان. فى كل الأحوال فإننى لم أجد بلدًا كمصر، أسماؤه معبرة بهذا العمق عنه، قديمًا وحديثًا.. وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم..