ظلت كسوة الكعبة الشريفة تتم إجراءات نسجها وتطريزها فى مصر، حتى استأثر بهذا الشرف ولاة مصر حتى فى عهد الخلافة العباسية حتى كان فى عهد الخليفة العباسى جعفر المتوكل الذى أمر أن يُصنع للكعبة المشرفة إزاران كل شهرين، ثم جاء بعده الخليفة الناصر العباسي فكساها باللون الأخضر، ثم باللون الأسود. وعلى مدار المئات من السنوات ظل الأمر هكذا إلى أن جاءت السلطانة شجرة الدر ونظمت طرق نسج وتصنيع كسوة الكعبة وإرسالها على محمل فى حماية جند مصر ومشايخها، وكان يحمل الكسوة جمل عليه هودج، وحوله جِمال وخيل وجند، وكانوا يدورون به فى عموم مصر، ويستمرون على ذلك أيامًا، تُقام فيها الاحتفالات، ويُتلى فيها القرآن والمدائح النبوية، حتى خروج المحمل مع بدء موسم الحج إلى مكةالمكرمة عبر البحر، وكانت الكسوة بيضاء اللون. وكذلك استمر الحال فى عهد السلطان الظاهر بيبرس الذى لقب نفسه ومن بعده بقية السلاطين المماليك بسلطان مصر وخادم الحرمين الشريفين، وكان المماليك يرون أن هذا شرف لا يجب التنازل عنه وإن بلغ الأمر إلى القتال عليه، وكانت هناك محاولات من قبل الفرس والعراق لنيل شرف كسوة الكعبة، لكن سلاطين المماليك لم يسمحوا بالتخلى عن كسوة الكعبة، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد اعترف حكام اليمن بحق مصر في صناعة الكسوة، بعد اعتقال سلطان مصر لملك اليمن الملقب: المجاهد، عام 751 هجريًّا، وجاء إلى مصر مكبلًا بالأصفاد عندما حاول اقتناص هذا الشرف، وجاء من اليمن بكسوة بيضاء وأراد إزالة الكسوة المصرية. وإمعانًا بالحفاظ على استقلالية موارد صناعة ونسج كسوة الكعبة فقد أوقف الملك الصالح إسماعيل بن عبدالملك الناصر محمد بن قلاوون، عام 751 هجرية، وقفًا ضم قريتين من قرى القليوبية هما قريتى بيسوس وأبوالغيث بعائد بلغ 8900 درهم سنويًّا. كما تخصصت مدينة تنيس بالقرب من بحيرة المنزلة وبها أمهر النساج الذين نسجوا كسوة الكعبة على مدار ستمئة عام، وحتى عهد السلطان العثمانى سليمان القانونى زادت القرى الوقف لصالح كسوة الكعبة إلى تسع قرى مصرية. كما اهتم السلطان سليم الأول بتصنيع كسوة الكعبة وأضاف إليها كسوة الحجرة النبوية، وكسوة مقام إبراهيم الخليل، وظلت الكسوة تُرسَل بانتظام من مصر سنويًّا وعُيِّن لها أميرًا للحج فى قافلة الحج المصرى الذى كان يرافقها أيضًا قوافل السودان والمغرب العربى، وكان موكب كسوة الكعبة عبارة عن جمل يحمل الكسوة وخلفه جمال تحمل المياه وأمتعة الحجاج، وخلفه جُند يحرسون الموكب حتى الحجاز، ومن ورائهم رجال الطرق الصوفية، يدقون الطبل ويرفعون الرايات، وبعد الحج يعود المحمل حاملًا الكسوة القديمة للكعبة، بعد استبدالها بالكسوة الجديدة. وكان التوقف الأول عن إرسال كسوة الكعبة من مصر فى عهد محمد على باشا، عام 1222ه، الموافق عام 1807م، أعادت مصر إرسال الكسوة فى العام 1228ه. وخلال العام 1233 هجريًّا، أنشئت دار لصناعة كسوة الكعبة، بحى الخرنفش بين شارع بين السورين وميدان باب الشعرية، وظلت الكسوة تُصنع فى مصر حتى عام 1381 هجريًّا، 1962 ميلاديًّا، كما جاء بكتاب المؤرخ السيد محمد الدقن "كسوة الكعبة المعظمة عبر التاريخ"، الصادر فى مايو عام 1985.
ولا ننسى ما قاله الإمام الشافعى: "مصر أرض الخير تصنع كسوة جدران بيت الله الحرام وترسله لنا فى الحجاز.. اللهم احفظ مصر وأهلها". هكذا تستشعر خصوصية تنفرد بها وأنت فى مناسك الحج أو العمرة، إذ تقف خاشعًا أمام البيت، وعندما تتعلق بأستار الكعبة –هنا- يسرد التاريخ لك أن تلك الكسوة منذ فتح مكة كانت مصرية وعلى مدار العشرات من القرون حتى بداية الستينيات ، وسيأتى الحديث ان شاء الله عن دور العقول والسواعد المصرية فى التوسعات الكبيرة فى الحرمين الشريفين ، وايضاً عن ما صدحت به حناجر القراء المصريين بمكةالمكرمة والمدينة المنورة، ما أعظمك يا مصر من وطن.