الوفاء ليس خُلقًا عابرًا نمارسه حين نكون في مزاج جيد، ولا هو زينة نُعلّقها على صدورنا وقت الرفاهية، الوفاء موقف، حالة إنسانية نادرة، تُشبه الماء في نقائه، والذهب في قيمته، والشمس في دفئها، هو أن تظل ذاكرتك يقِظة، وإن نامت ذاكرات الآخرين. أن تفي، معناه أن تردّ الجميل ولو بكلمة، أن تتذكّر من زرعوا لك بسمة وأنت تائه، ومن حملوا عنك حِملًا حين انحنت بك الأيام، من وقفوا بجوارك في العاصفة، دون سؤال أو حساب أو انتظار مقابل. الوفاء لا يُشترى، لا يُفرض، ولا يُعلّق على باب المصلحة، هو الفارق بين من يعبرون حياتك كنسمة، ومن يمرّون كالريح ثم لا يعودون، هو أن تحتفظ في قلبك بمكان لمن رباك، لمن علمك أول حروفك، لمن وقف في ظلك حين مالت بك الحياة. الوفاء للوالدين ليس اختيارًا، بل فطرة، هما أول من صدّق فيك الحياة، وأول من دفع ثمن أحلامك من عرقهم وسهرهم وسنوات عمرهم، الوفاء لهما لا يكون فقط في برّهما، بل في أن تحمل اسمهما بكرامة، وأن تسير في الأرض وأنت تُشبه ما تمنّوه لك من خلق وسُمعة ومكانة. ثم يأتي المعلم، ذاك الذي منحك من عقله وقلبه، من صبره وتعبه، من وقته وعمره، دون أن يسألك مقابلًا سوى أن تصبح إنسانًا يستحق الحياة، الوفاء له لا يكون فقط بكلمات الشكر، بل بأن تظل تذكر صوته حين كان يُعيد لك حرفًا حتى تتقنه، ونظرته حين كان يُراك أكبر من ضعفك. وهناك أولئك الذين مرّوا بنا في لحظات العُتمة، منحونا نورهم ثم اختفوا، لم يسألوا شيئًا، ولم يشهروا معروفهم فوق رؤوسنا، هؤلاء نحتفظ بجميلهم في القلب، كأننا نخاف عليه من الهواء. الوفاء لهم هو أن نردّ الغياب بالدعاء، وأن نُشبههم حين نُصادف محتاجًا لظلٍّ كما كنا. وفي زمن تتغير فيه الوجوه كما تتبدل الفصول، يصبح الوفاء عملة نادرة، ليس لأن الناس نسوا، بل لأنهم انشغلوا بأنفسهم حدّ أن ذاكرتهم لم تعد تتسع لغيرهم، لذلك حين تُصادف شخصًا وفيًا، تمسّك به، فهو مرآة نادرة لما كان يجب أن نظل عليه. الوفاء لا يحتاج مناسبة، ولا يطلب منصبًا، هو أن ترفع رأسك عاليًا لأنك لم تترك المعروف يسقط منك، لم تُغلق بابك في وجه من فتح لك أبوابه يومًا، ولم تنكر يدًا امتدّت إليك حين جفّت كل الأيادي. تذكّر دائمًا، أن أجمل ما يُقال عنك ليس أنك غني أو ناجح، بل أنك وفيّ، فالنجاح يُنسى، والغنى يزول، أما الوفاء، فيبقى أثره في القلوب حيًا لا يموت.