كل حدث سياسى، أو عسكرى كبير، لا تظهر نتائجه فورا، لكن التفاعلات الكمية تتخذ مسارها وتفاعلاتها، لتبدأ التحولات الكيفية، ويستغرق الأمر شهورا، وربما سنوات، وهى قاعدة تنطبق على كل التحولات الكبرى، ومنها «أحداث 7 أكتوبر» سواء عملية طوفان الأقصى، أو رد الفعل الانتقامى من قبل الاحتلال، الذى تجاوز رد الفعل إلى ما يشبه تطبيق خطة كانت جاهزة بانتظار إشارة البدء. وما يجرى الآن من عودة العدوان الإسرائيلى، بشكل أكثر ضراوة، وإعادة مخططات التهجير، يعكس الكثير من التداعيات التى تمس القضية وتكشف عن تهافت خطوط وثوابت، اختلفت عما كان حتى ما قبل 7 أكتوبر. حرب إبادة، وإحياء مخططات التهجير لسكان غزة مع تدمير شامل للمبانى والمدارس والمستشفيات بشكل يحاول جعل غزة غير قابلة للعيش، وتزامن هذا مع عمليات نوعية واغتيالات متعمدة لقيادات سياسية، سواء اغتيال العارورى فى لبنان، أو إسماعيل هنية فى طهران، والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وعدد من خلفائه، ويحيى السنوار، خليفة «هنية»، مع تقاطعات وتفاعلات إقليمية امتدت إلى لبنان وسوريا وإيران وتركيا، ومشروعات تهجير تصدت لها مصر، ولا تزال. كل هذا صنع خلخلة سياسية، بجانب غياب السياسة تقريبا فى البيانات أو الخطوات غير المحسوبة، وبصرف النظر عن أسباب هذا كله، أو تقييم ضربات البداية، فإن ما يجرى من أفعال واستعراضات يبدو فى بعض الأحيان خارج نطاق السياسة، ويدخل فى حسابات الاستعراض وكسب التأييد الافتراضى أكثر من تحديد أهداف استراتيجية. وبالتالى، فإن هذه الحرب التى تجاوزت 16 شهرا، شهدت تداعيات وتحولات يبدو بعضها مخططا، والبعض الآخر فرضته تطورات المواجهة، يشكل يجعلها بحاجة إلى دراسة وتفهم بعيدا عن القوالب الجاهزة، أو البكائيات التى تظل مجرد طاقات مفرغة من دون محاولة لفهم وقائع، كان واضحا من بدايتها أنها تختلف عما سبق طوال عقود، وبالتالى فإن القوالب الجاهزة لا تصلح لفك ألغاز صراعات وحروب اتخذت أشكالا وتفاصيل مختلفة وتتشعب لتعيد رسم سيناريوهات تبدو فى الكثير من الأحيان بعيدة عن التوقعات الجاهزة، بجانب أنها شفت عن تغيرات فى مواقف القوى الإقليمية بصورة غيرت من مفهوم النفوذ والقوة، فقد كانت إيران طرفا ظاهرا فى بداية الأحداث، لكنها مع الوقت ومع مواجهات مع حزب الله، واليمن تراجع ويبدو أنه ينسحب من الصورة بشكل أكثر درامية مما كان متوقعا، بل إن المواجهة كشفت عن ضعف جبهات كانت تبدو أكثر تماسكا. وبعد 15 شهرا ومساع مصرية وعربية لوقف العدوان والتوصل إلى وقف إطلاق نار، ظهرت أنواع من الاستعراضات أثناء تسليم المحتجزين، شعر معها نتنياهو أنه لم يحقق ما أعلنه من أهداف، فخرق اتفاق إطلاق النار، وأعاد الحرب بشكل أكثر قوة، وبصورة تجاوزت الإبادة، مع إصرار على إخراج حماس نهائيا من المعادلة، وهو هدف يبدو مستحيلا، وإن كان يحمل نية إبادة جديدة تضاف إلى جرائم الاحتلال، بجانب أن الاحتلال كلما عجز عن الوصول إلى قوات حماس المختفية، يشن هجمات تطول المدنيين، خاصة الأطفال، مع إصرار على تطبيق التهجير القسرى أو الطوعى، كل هذا بهدف سياسى هو البقاء بعيدا عن المحاسبة على حرب لم تحقق إلا قتل المدنيين خاصة الأطفال. مبكرا كانت مصر هى الطرف الوحيد الذى حذر من أن تتسع الحرب وتفتح جبهات شمالا وجنوبا، وهو ما تحقق، وبدا تطورا متوقعا ومرسوما، وبدا أن القاهرة - بخبرتها فى التعامل مع ملف معقد - كانت قادرة على توقع سير المواجهة، بينما بقيت بعض الأطراف تتعامل بناء على نماذج سابقة عاجزة عن قراءة شكل جديد من التحولات يختلف عن المواجهات السابقة، سعت مصر إلى عقد مصالحة بين الفصائل الفلسطينية باعتبار الصراع الداخلى أخطر الثغرات التى أضعفت القضية، وفرضت تقاطعات وتداخلات جعلت القرار خارج إطار المحلى وانعكاسا لقوى وصفقات. ولا تزال القضية تراوح مكانها وتعكس حجم التفاعلات والتقاطعات الإقليمية والدولية، التى تفرض تعاملا مختلفا، يتجاوز القوالب الثابتة إلى ما هو أكثر اتساعا وتفهما.