فى ثورة 1919.. كان الشيخ سيد درويش على موعد مع قدر ثورة الشعب ، وكانت الثورة على موعد مع صوت وألحان درويش التى عبرت عن إرادة شعب ثائر ضد الظلم والاحتلال. انفجار عبقرية سيد درويش لم يكن مصادفة، وإنما كان «إرهاصه» شعب يهفو إلى الحرية وتتشكل رغم كل وسائل القهر ملامح شخصيته القومية، وتنبت بداخله بذور الثورة والنهوض والكفاح ضد الاستبداد بمقدراته وقيمه ومثله، الحركة القومية المصرية هبت من جديد فى العقد الأخير من القرن ال19 عندما ولد سيد درويش وعاش طفولته تحت ظل «مأساة دنشواى» وصيحات الوطنية بزعامة مصطفى كامل ومحمد فريد، وكان من الطبيعى أن تنصهر عبقرية الفتى الشيخ وينضج وعيه ووجدانه فى جذوة اشتعال الوجدان الوطنى. ووضع الشيخ يده على حقيقة بسيطة أن يجعل كل الناس يغنون أحزانهم وأحلامهم وثورتهم.. بل أصبح درويش نفسه تعبيرًا عن هؤلاء الناس، وأخفى تحت عمامته ثورة الفن الغاضب والرافض لكل أشكال الظلم، وكانت الثورة هى الأتون التى انصهرت فيها عبقرية درويش لينطلق بصوته ليحيل الثورة إلى كلمات تلهج بها ألسنة وقلوب الشعب، ولذلك قال الناس وقتها إن لثورة 1919 زعيمين سعد زغلول وسيد درويش. وحتى قبل ثورة 1919، وعقب انتقاله للقاهرة نجح فى أن يكون ويجمع حوله مجموعة من الشعراء والزجالين والكتاب والأدباء الوطنيين الثائرين. ومع الثورة غنى درويش «قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك خد بنصرى نصرى دين واجب عليك»، ثم أغنيته التى تحولت إلى نشيد مصر الوطنى بعد ذلك «بلادى بلادى لك حبى وفؤادى»، وهو النشيد الذى أطلقه درويش فى غمار الثورة ورصاص الإنجليز يطارد الثوار.. حارب الاحتلال بصوته وموسيقاه وفى كل موقع فعندما قبضت سلطات الاحتلال على ألوف العمال المصريين لكى يعملوا بالسخرة فى مد خطوط السكك الحديدية التى تيسر انتقال جنود الاحتلال بين أقاليم مصر، ودفعت بمن بقى منهم على قيد الحياة للعمل قسرا فى البحرية الإنجليزية، أطلق سيد درويش لحنه الخالد الذى هز وجدان مصر «يا عزيز عينى وأنا بدى أروّح بلدى.. بلدى يا بلدى والسلطة أخدت ولدى»، ومع عودة بقايا العمال غنى «سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة». وفى أحد أيام 1919 والثورة المصرية فى عنفوانها واشتعالها حكمت السلطات الإنجليزية على شاب مصرى وهو محمود الورداني بالإعدام لأنه قتل ضابطا إنجليزيا، واهتز ضمير مصر بالغضب والسخط لأن الحكم صدر فى نفس اليوم الذى قتل فيه الضابط الإنجليزى والتنفيذ فى اليوم التالى وكان صوت الثورة حاضرًا فى ألحان درويش وتفجر وجدانه الفنى، فأطلق أعذب وأحلى لحن لوداع الشهيد المصرى على لسان أمه الثائرة «قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. أحسن غزال البر صابح ماشى». واتساقًا مع وجدانه الثورى رفض درويش أن يغنى فى حضرة «صاحب الجلالة الملك فؤاد المعظم»، فى قصره وأمام الأمراء والوزراء لأنهم طلبوا منه حذف لفظ «سعد»، الزعيم سعد زغلول، من النشيد الذى أعده لاستقبال زعيم ثورة 1919 عند عودته من المنفى، ويضع مكانه لفظ فؤاد فيغنى «مصر وطنا.. فؤادها أملنا» بدلا من «مصر وطنا.. سعدها أملنا»، ورفض مع هذا الرفض مائة جنيه كان سيتقاضاها من القصر نظير غنائه، كما رفض أن يلقب «بمطرب الملك»، وفضل أن يكون فقيرًا ولكنه «فنان الشعب». وعندما حظرت السلطات ذكر اسم الزعيم سعد زغلول من النشر فى الصحف وفى وسائل النشر الأخرى والأغانى بعد نفيه إلى جزيرة سيشل، تحايل سيد درويش لتحية زعيمه وتمجيده فغنى أغنيته الشهيرة «يا بلح زغلول.. يا حليوة يا بلح.. يا بلح زغلول»، ورددت مصر معه الأغنية. انطلقت عبقرية الشيخ سيد فى مسارح جورج أبيض وسلامة حجازى، وأحدث الهزة الأولى فى ساحة الغناء والطرب بألحانه فى أوبريت «فيروز شاه» لفرقة جورج أبيض، وانضم إلى نجيب الريحانى وبديع خيرى ليعمل فى فرقتهما المسرحية كملحن ومؤلف موسيقى لكل ما يقدمه الريحانى من اسكتشات غنائية ومواقف مغناة من مسرحياته. وإذا كانت تلك العبقرية قد تجلت فى انحيازه واختياره طواعية للوقوف فى صف فئات الشعب المختلفة من الطوائف وأصحاب المهن من أبناء مصر فقد وضع فى فم كل فرد وفى أسماعه أغانيه التى تخاطب واقع حياته حتى أطلق عليه «فنان الشعب». وكانت الطوائف فى مصر كلها فى عام 1917 تغنى للشيخ سيد ما يشبه النشيد اليومى الوطنى عن «الحلوة التى قامت تعجن فى الفجرية» و«الأسطى عطية».. رمز كل عمال مصر الذى يصرخ فيها قائلا: «صبح الصباح فتّاح يا عليم والجيب مفيهش ولا مليم.. مين فى اليومين دول شاف تلطيم زى الصنايعية الملاطيم». وينقل الشيخ سيد هذا الانحياز وهذا الاختيار إلى خشبة المسرح فى أول رواية لحنها لفرقة الريحانى، وهى مسرحية «ولو» عام 1918 فيقدم أروع ألحانه الحية النابضة عن «السقايين»، قائلا «يهون الله.. يعوض الله .. على السقايين.. دول شقيانين». لم يكن القدر رحيما بالشيخ سيد درويش ولم يمهله وهو الصوت الذى قاد بفنه وألحانه ثورة 1919، أن يكون فى شرف استقبال زعيمه سعد زغلول من المنفى فقد مات يوم العودة فى سبتمبر 1923 عن عمر لم يناهز ال31 عاما، وفى الوقت الذى كان الشعب يغنى ألحان الشيخ سيد فى استقبال زعيم الثورة كانت روحه قد صعدت إلى بارئها ولم يشعر بموته أحد.. فهذا العبقرى حملوه إلى مثواه ولم تحتفل به الدولة ولا الصحافة، بل إن المؤتمر الأول للموسيقى العربية والشرقية الذى عقد فى القاهرة فى منتصف الثلاثينات تجاهل تكريم الرجل الذى أحدث الثورة الحقيقية فى الغناء العربى فى القرن العشرين، وحرره من القصور والإسفاف، ومن خلف أسوار الحريم وإذا لم يكن تكريمه بعد وفاته لم يأت من وطنه وقتها فقد جاء من أوروبا فقد خلده النمساويون والإيطاليون، وضموه إلى أسماء الموسيقيين الخالدين لأنه سبق مشاهير الملحنين وقتها إلى الموسيقى والألحان الغربية مثل السامبا والفالس والتانجو. ترك سيد درويش تراثا موسيقيا رائعا تجسد فى «20 أوبريت» من أهم كنوز الموسيقى العربية وضعها فى 6 سنوات فقط.