بشير الديك اسم لا يمكن تجاوزه حين نتحدث عن سينما تعبر عن الإنسان البسيط، هو كاتب سيناريو استطاع أن يصنع عالماً سينمائياً نابضاً بالتفاصيل، عالمًا لا تُخطئه العين ولا القلب، لأن شخوصه مأخوذة من الواقع، من الأزقة والشوارع، ومن نبض الحياة اليومية، كل شخصية فى أفلامه تبدو وكأنها خرجت لتوها من حكاية سمعناها. طنط نبوية، زوجة عمه، كانت أول نافذة أطل منها على عالم الحكايات، في طفولته، كانت تحكي له قصصًا بأداء يجعلها تبدو كحقائق، بأسلوب ساحر جعله يرى أبطال الحكايات كأنهم أشخاص من لحم ودم، يقول عنها بشير: "كانت بالنسبة لى مكمن الشعر والحكاية والقصة والأسطورة، علمتنى أن أحب الحكاية" هذا الحب المبكر للقصص ظلّ معه، وصار وقوداً لرحلته ككاتب. قراءته النهمة كانت نافذة أخرى فتحت له أبواب الخيال، لكن طريقه لم يكن معبّدًا بالورود، كتب في بداياته قصة بعنوان "زائر المدينة الميتة"، مستوحاة من فيلم أمريكي ألهمه بشدة، لكنها كانت أشبه بقصة سينمائية تعكس ولعه بالسينما، لم يكن يدرك أن هذا العمل البسيط سيكون بداية مسيرته، القدر قاده إلى مصطفى محرم، الذي آمن بموهبته وأتاح له فرصة ذهبية حين طلب منه كتابة معالجة سينمائية لقصة "الزوج الأبدى" لدوستويفسكى، تلك الفرصة أثمرت فيلم "مع سبق الإصرار"، الذى صدر عام 1978، نجاح الفيلم الكبير كان بمثابة جواز مرور لبشير إلى عالم السينما. هذا النجاح لم يكن محطة واحدة، بل بداية سلسلة من الشراكات الفنية التى شكلت ملامح السينما المصرية فى الثمانينيات، حين التقى بالمخرج محمد خان، وجد فيه شريكاً يتقاسم معه نفس الأحلام، معًا قدما أفلامًا مثل "الحريف"، "موعد على العشاء"، و"طائر على الطريق"، كانت هذه الأفلام انعكاسًا للمهمشين، حملت تفاصيل حياتهم اليومية وهمومهم. مع خان كان بشير يرى صورة جديدة للسينما؛ صورة تعتمد على الواقعية والتفاصيل الدقيقة، لكنها كانت خالية من البُعد العاطفي الدافئ الذي لطالما بحث عنه. عاطف الطيب كان الإجابة على هذا البحث، كان فيلم "سواق الأتوبيس" شاهدًا على توأمتهما الفنية، حيث قدما صرخة إنسانية تنبض بالدفء والصدق، على النقيض من أفلام خان، التى اعتمدت على التفاصيل الدقيقة والبعد عن اللحظة العاطفية الساخنة، جاءت أفلام الطيب مليئة بالمشاعر الجياشة التي تلامس قلب الجمهور مباشرة. مع الطيب استطاع بشير أن يجمع بين قسوة الواقع والميلودراما المصرية، مما أضاف طابعًا إنسانيًا قويًا لأفلامهما المشتركة. أفلام بشير ليست مجرد حكايات تُروى، بل هي شهادات حيّة على الزمن والواقع، "الحريف"، على سبيل المثال، كان أشبه بعمل أدبي عميق، يُدرك جماله مع الزمن، بينما "سواق الأتوبيس" كان صرخة حادة تُسمع فورًا وتترك أثرًا لا يُمحى. في كل فيلم كتبه بشير، تظهر قدرته على التوازن بين العمق والمباشرة، مما جعل أعماله تلامس قلوب المشاهدين وعقولهم. يتميز أسلوب بشير الديك بالتركيز على الشخصيات المركبة والمعقدة، حيث يسعى إلى تجسيد واقع الحياة المصرية من خلال سرد قصص تعكس التحديات الاجتماعية والسياسية، دومًا أبطاله على شفا الهاوية، لكنهم يتشبثون بمبدأ أو تاريخ مشرف يمكنهم من المقاومة، مثل "فارس" في "الحريف"، الذي يواجه عالمًا جديدًا يعيد فيه ترتيب أولوياته ليكتشف أن "زمن اللعب راح"، أو "حسن" في "سواق الأتوبيس"، الذي يرفض أن ينكسر ويصمد في وجه التحديات حفاظًا على ورشة أبيه. اليوم، ورغم رحيله عن عالمنا عن عمر 80 عاما، تبقى أعمال بشير الديك علامة فارقة في السينما الواقعية، تُجسد نبض الشارع المصري بأحلامه المنسية. ففي كل شخصية، في كل حكاية، هناك خيط إنساني دقيق يربط بينه وبين جمهوره. وهذا الخيط يجعلنا نعود إلى أفلامه مرارًا، نعيش تفاصيل حياتنا اليومية عبر عدسة سينما صادقة، مليئة بالحب، المعاناة، والأمل.