هل اللغة العربية مقدسة؟.. وهل هي "معجزة"؟ تبدو الإجابة على السؤالين أعلاه من مثلى ومثلك مجروحة، ذلك أننا من المنتمين إلى هذه اللغة، ومن ثمّ فانحيازنا لها أمر بديهى، غير أننى أزعم امتلاك دفوع منطقية أو موضوعية لإجابتين إيجابيتين، ونبدأ بالسؤال الأول عن إعجاز اللغة العربية، والمتمثل فى أمور عدة أبرزها هو "عمرها". فبحسب موقع إثنولوج وهو موقع معلوماتي تابع لمنظمة إس - أى - إل إنترنيشنل المسيحية غير الربحية والمهتمة بإحصاء أعداد متحدثى كل اللغات الإنسانية الحية فإن عدد اللغات الحية الآن على مستوى الكوكب الأزرق هو حوالى 6900 لغة (تعداد عام 2009)، لكن هذا العدد سينقرض منه نسبة تتراوح ما بين 50-90% بحلول عام 2100 منها لغات غابات الأمازون، والصحراء الأفريقية الكبرى وأستراليا وأوقيانوسيا وجنوب شرق آسيا، تبعا لتقرير اليونسكو الصادر عام 2015، الذى أورد أيضا قائمة من ألفى لغة رسمية سيكون عدد متحدثيها بنهاية القرن الحالي ألف شخص أو أقل، ما يعنى أن اللغات البشرية هي "كثبان رملية" لا تستقر خريطتها على شكل، فكل قرن يشهد ميلاد لغات وموت أخرى، لا نستثنى من ذلك لغة، اللهم إلا لغة واحدة حصرا وقصرا. هل عرفتها؟ نعم.. إنها "العربية".. فهذه اللغة هي الاستثناء الوحيد الذى يكسر "القاعدة" الحاكمة لحركة اللغات الحية سطوعا وأفولا، وإلا لكانت قد انقرضت بالتزامن مع انقراض كل اللغات التي زاملتها، هذا البقاء المدهش لا يقتصر على الماضى بل يمتد لما هو أتٍ، فمن غير المتوقع إدراجها ضمن "قرارات الإزالة الصوتية" لا في المستقبل القريب ولا البعيد، وقد يقول قائل أن السبب في هذا هو القرآن الكريم، وهذا صحيح، فنزول الوحى بها أمدها بأكسير شباب دائم، لكن على الجانب المقابل فالقرآن الكريم لم يكن الكتاب السماوى الوحيد المنزل بلغة بشرية، ومن ثمّ فالسؤال يطرح نفسه: لماذا لم تمنح الكتب الأخرى لغاتها الأصلية خلودا كالذى منحه القرآن للعربية؟.. عندك مثلا العبرية القديمة التي نزلت بها التوراة وتُعرف باسم "تورات موشيه أو شريعة موسى". وهى ذات اللغة التي كُتب بها أغلب نصوص الإنجيل، في قول وفى قول آخر أن السيريالية لغة السيد المسيح كانت هي لغة لإنجيل، ولكن أيا كانت اللغات الأصلية للكتابين فهى لغات غير موجودة الآن، على الأقل كما كانت في زمنها الأول، والحال نفسه ينطبق على اليونانية واللاتينية والآرامية، فكلها لغات احتوت نصوصا مسيحية أو يهودية، ومع ذلك لم تزاحم "العربية" في كونها اللغة الوحيدة "الأصلية" "الحية" لنص دينى قديم. ومن ثمّ فالعربية تشكل من بين لغات العالم لغزا مثيرا للحيرة، فهى "كانت" و"ستكون"، فى استمرارية تنتج تراثا بشريا تراكميا هو الأضخم على الإطلاق، تراث لا يسهم فيه العرب وحدهم، بل أمم أخرى جذبهم الإسلام سواء أكانوا مسلمين أم مستشرقين، وربما كان إلقاء نظرة على عدد المفردات العربية كفيل بإيضاح هذا "التراكم الهائل" الذى تنطوى عليه، فمعجمها يحتوى ما يزيد عن 25 ضعفاً لعدد كلمات الإنجليزية التى أكثر لغات العالم انتشارا (الكلمات العربية بتحديد 12.302.912 كلمة). المعجزة هنا ليست في البقاء كمعنى مجرد، بل في كونه "بقاءً دون تغيير يُذكر"، فعربية اليوم هي ذاتها عربية القرن السابع الميلادى، بمعجمها، ونحوها وصرفها وبلاغتها، وخصائصها التي منها خصيصة تجيب على السؤال الثانى الذى نصه: هل العربية لغة مقدسة؟ و"اللغات المقدسة" عزيزى ليس مصطلحا شيفونيا من ابتكار بعض المنحازين للغاتهم، بل يطلق على اللغات التي تشكل نصوصا دينية أو تستخدم للصلاة وأداء الشعائر، وعدد هذه اللغات في عالم اليوم هو 25 لغة غير العربية، منها اللاتينية المستخدمة داخل الكنائس الكاثوليكية، وسنسكريتية المعابد الهندوسية، والصينية الكلاسيكية لغة الدين للكونفوشيين والطاويين وبعض البوذيين، وأيضا القبطية المستخدمة في الكنائس الأرثوذكسية المصرية والإفريقية، لكن ما يميز "قداسة" أو "قدسية" العربية هو كونها "لغة حياة ومعاملات رسمية" إلى جانب كونها "لغة شعائر وكتاب مقدس"، في حين أن اللغات الأخرى تكاد تنحصر في دور العبادة وتقتصر عليها. ومن ثمّ فهل ترى معى عزيزى القارئ وجاهة ومنطقية الأسباب التى تحكم ل"العربية" بالإعجاز والقدسية؟