فى يوم 6 أكتوبر 1973 فاجأت مصر إسرائيل بهجوم قوى، ولكن إسرائيل نجحت فى إلحاق الهزيمة بمصر، وإجبارها على الجلوس على مائدة المفاوضات. قبل أن تندهش من العبارة دعنى أخبرك بأنها شائعة- بصياغات مختلفة مع نفس المعنى- فى كثير من الكتابات الأجنبية التى تناولت حرب 6 أكتوبر 1973 المجيدة، هذه واحدة من أكثر العبارات التى ينطبق عليها المثل الشعبى «كذبوا الكذبة وصدقوها». فالواقع التاريخى هو أن إسرائيل- كأى دولة احتلال- لا تفتح بابا لتفاوض أو نقاش أو حوار قابل للانتهاء باضطرارها للانسحاب مما احتلت من أراضى، إلا إذا كان هذا الخيار أقل مرارة من خيار الاحتكام للقوة، وأعتقد أن الواقع المعاصر يؤكد هذا. إذن فإسرائيل لم تكن بالتأكيد تريد تفاوضا ينتهى بانسحابها من كامل سيناء المصرية، فما الذى يدفعها إذن للجلوس على مائدة المفاوضات التى كانت المعارك الدبلوماسية فيها لا تقل ضراوة عن معارك الدبابات والطائرات فى ساحات القتال؟ القارئ فى تاريخ حرب أكتوبر، وتحديدا الإعداد لها، يعلم أن الرئيس الراحل أنور السادات قال بشكل صريح ومباشر لمجلس حربه: إن الهدف هو السيطرة على ضفتى قناة السويس، وإسقاط خط بارليف والدخول لأبعد مسافة ممكنة فى سيناء من أجل إجبار العدو على الجلوس إلى مائدة المفاوضات. إذن فالحرب هنا كانت وسيلة لخدمة السياسة، كما يقول القائد والمفكر الحربى البروسى كارل فون كلاوسفيتز فى كتابه «عن الحرب»، أى أنها كانت وسيلة لإلزام ذلك الذى لا يعترف سوى بالقوة و«البلطجة » المسلحة وأن يضطر للجلوس والتحدث كما يفعل القوم المتحضرون. وما دامت مصر قد حققت هدفها من تلك الحرب، فكيف تكون لدى البعض الوقاحة لوصف نتيجتها بالهزيمة؟! ولكن، هل كان لمصر أن تجبر كيانا متجبرا متعجرفا متبلطجا كإسرائيل على التفاوض، وتقديم التنازلات إلا بأن تمتلك «الأداة » التى تلزمه ذلك بالقوة لو لزم الأمر، طالما أنه لم يستجب للخطاب السلمى؟ بالتأكيد فإن الإجابة بالنفى، فنحن نعيش فى عالم شديد القسوة لا يعترف بحق لضعيف، فلا سبيل إذن لحماية منهجك السلمى وسعيك الدائم لتحقيق سلام عادل وخلق حوار متكافئ مع الآخر إلا بأن يكون هذا الآخر على علم بما تستطيع فعله، لو حاول أن يحيد بك عن السلمية! فى هذا رد على تيارين أراهما متطرفين، التيار الأول يقدم نفسه باعتباره «داعية سلام »، يستنكر اهتمام الدولة بجيشها وحرصها على جهوزيته وما يتكلفه ذلك من مال وطاقات بشرية وغيرها، ويرى أن الأولى توجيه تلك الطاقات للأنشطة السلمية وبناء المجتمع، أو كما تقول شخصية «رام » التى لعبها الفنان خالد النبوى فى فيلم «المهاجر» للمخرج الراحل يوسف شاهين: «فلنجعل من الجنود فلاحين»، أو كأغنية من أغنيات السلام للمطرب الفرنسى أنريكو ماسياس- الذى يغنى للسلام وفى الوقت نفسه يدعم هجوم إسرائيل على غزة ولا تخرج قبل أن تقول سبحان الله- فهذا كلام قد يصلح للدراما والأدب اللذين يتمتعان بمساحة لا بأس بها من العيش فى الحلم، إلا أنه بالنسبة للواقع كلام غير عملى، فكل ما تحققه من عملك السلمى يمكن أن تذروه الرياح فى ضربة واحدة من عدو غادر، الأمر أشبه برجل مشهور بامتلاكه ثروة طائلة يقصر فى حماية بيته اعتمادا على النوايا الحسنة. التيار الآخر هو الذى لا خطاب عنده سوى صيحات الحرب، فهو يتعامل مع القتال باعتباره هدفا فى حد ذاته، ولا يدرك أن كل خطوة فى مواجهة الخصم يجب أن تكون مدروسة، وأن تتوفر لها التوقعات القائمة على دراسة علمية وعملية للسيناريوهات المحتملة، لكن صاحب هذه العقلية المتطرفة السطحية يختصر صراع عقود فى حرب عام، ويلخص الحرب فى معركة عابرة، فليس من المستغرب إذن أن يمجد من يقتلون فى المعركة العبثية أكثر مما يفعل مع من ينتصرون فى الحرب كلها، هو لا يريد أكثر من وجوه يضعها فى posts على الفيسبوك، وتحتها بعض العبارات التى تجمع بين الرثاء والتصعب وجلد الذات كتلك العبارة السخيفة الشائعة عن «مسلم حى ينعاه مئتا مليون مسلم ميت!» هو يردد عبارة «بدها نفس طويل»، بينما هو يطلب انتصارا سريعا، هذا شخص لم يدرس علوما سياسية ولا علوما عسكرية ولا تاريخا ولا قانونا دوليا، لكنه يعتقد أنه يفهم أكثر من كل أهل السياسة والحرب، وبحق الله! كم من قرارات خطيرة أبرمها هو وأقرانه حول أحجار المعسل على المقهى، كان من شأن تنفيذها أن تضعنا فى «منطقة أخرى» لا أحب تخيلها! يقول البعض: ما قيمة امتلاكنا جيشا قويا ما دمنا لا نحارب؟ الجواب أن امتلاكنا هذا الجيش القوى هو ما يجعلك آمنا بما يكفى لأن تعبث بقدميك وتسترخى فى كرسيك، وتجد وقتا وطاقة للتنظير الفارغ على بلدك وجيشها، هذا الجيش هدف وجوده هو حماية السلام الذى تنعم به، وصدقنى من حسن حظنا جميعا أننا نعيش فى دولة قيادتها لديها ما يكفى من حكمة لتجعل الاحتكام للقوة هو الخيار الأخير، فلو أرهقت نفسك وبحثت عن مصائر دول حكمها قادة مغترون بقوتهم المسلحة لعلمت أن فكرة «القتال لأجل القتال» هى الحماقة بعينها. قد يسألنى البعض: وهل الاستفزازات التى نتعرض لها أحيانا من هذا أو ذاك لا تستوجب ردا رادعا؟ أجيب ببساطة، مجرد فكرة أنها استفزازات تعنى أنها أقصى ما يستطيعه هذا الخصم، ففى عالم قاس كعالمنا لو كان العدو أو الخصم يملك أن يفعل ما هو أكثر قوة من الاستفزازات لفعل. كذلك فإن الأمر بسيط: لو أن خصمك يريد اجتذابك للقيام بفعل أو تحرك ما، فلا بد أنه يعتقد لسبب أو لآخر أن هذا فى مصلحته.. فهل تحقق له ما يريد؟ ثمة شعرة رفيعة بين الاعتداد بالنفس والحفاظ على الكرامة من ناحية، والاندفاع الأعمى نحو الفخ من ناحية أخرى، هذه بديهيات يشعر المرء بالحزن إذا اضطر أن يشرحها لأناس يفترض أنهم متعلمون! إذا كانت الدول الاستعمارية قديما قد سعت لتحييد الجيش المصرى عن القتال، فإن ما لا يقل خطورة هو إيقاعه فى فخ القتال قبل استنفاد كل الوسائل السلمية، هما وضعان كلاهما خطأ، وتذكر دائما أن الفضيلة تقع بين رذيلتين. نحن أقوياء.. هذا صحيح، لكن القوة مسؤولية، لو لم نكن قد تعلمنا ذلك ونحن نمتلك واحدا من أعرق جيوش الأرض، فإن ما نحميه حقا لن يكون السلام وإنما الاغترار القاتل بالقوة.