دخل إلى الغرفة المظلمة يتحسس طريقه، فقد كان الظلام دامساً ولا يوجد أدنى بصيص من النور، فلم يكن لهذه الغرفة سوى نافذة واحدة هى التى استطاع أن ينفذ من خلالها إلى تلك الغرفة كلص تسلل إلى عرين الأسد، ظنا منه أنه تسلل إلى بنك المدينة دون أن يراه أحد. حاول جاهدا أن يرى لكن دون جدوى الشىء الوحيد الذى تمكن أن يراه بوضوح تلك الحروف المتناثرة والمتطايرة التى تشبه همهمات التلاميذ فى المدارس أحيانا، أو فحيح الأفاعى أحيانا أخرى، وحتى يستطيع تلمس طريقه داخل تلك الغرفة المظلمة ويتعايش فيها وجد أن تلك الأحرف ما هى إلا عينيه التى يمكن أن تساعده على تلمس الأشياء مادامت الرؤية منعدمة تماما.. فجأة لاحظ بعض الحروف المتطايرة تصنع له جملا يفهمها.. لكنه لم يستخدمها مطلقا من قبل فى حياته، ما أجملها من حروف تصنع جملاً مفيدة تدغدغ الحواس وتلعب بالعقول وتلهو بالقلوب كطفل يلهو بحبات المطر المتساقطة، ولما لا وهذه الحروف على ما يبدو أنها ذات شعر حريرى، كما تخيل وصوت أنثوى ناعم يفيض رقه وعذوبة، وهو شاب يحمل بين جوانحه قلبا غضا يصدق كل ما يقال إليه، ليس سذاجة منه، ولكنها شخصيته الطيبة المرحة التى تفترض الخير فى الناس جميعا قبل أن تفترض فيهم الشر، هى التى أوقعته فى شرك الأفعى. ولكنه بعد أن وجد الجمل والتراكيب التى تصنعها تلك الأحرف رقيقة بدرجة لم يكن يتصورها حتى فى الأفلام السينمائية الحالمة التى سميت فيما بعد بأيام الفن الجميل أخذ يفكر ويتدبر الأمر.. من تراها صاحبة تلك الحروف؟! هل هى الفتاة التى حلم بها ورسم ملامحها فى خياله كى تشاركه الحياة بقيه عمره.. أم تراها فتاة لعوب تجيد رص الحروف متجاورة لتصنع جملاً مفيده تقودها فى تلك الغرفة المظلمة لعلها تعثر على مصباح ينير لها طريقها، أم تراها فتاة هوى.. أو قد تكون رجلا متنكرا فى حلة فتاة..!! كل هذه الخيالات والأوهام جالت بخاطره فى تلك الغرفه المظلمة.. ولم يستطع أن يغلب احتمالاً على الآخر فهو فى الظلام.. وكل الاحتمالات واردة فى الظلام مالم يجد الإنسان بصيصا من النور يجعله يشعر بمادية الأشياء. حاول جاهدا أن يترجم تلك الحروف التى تبدو له فى صورة مشاعر وعواطف جياشة إلى صورة تجعله يشعر بمادية تلك المعانى التى استشعرها فى حروف صاحبة الشعر الحريرى وصاحبة العيون الصافية والضحكات التى تشبه صوت نسيم يداعب أوراق أشجار خضراء، كما تخيلها أو رسم لها صوره بملامحها التى رُسمت بأحرف الغرفة المظلمة، كتب مجموعه من الأحرف تطلب صاحبه أو صاحب الكلمات الجميلة أن ترسل له بصيصا من النور يستطيع أن يتلمس من خلاله ملامحها ويعبث بشعرها كى يشعر بمادية تلك الحروف الصماء، لكن الرد جاء له قاسيا وعلى خلاف طبيعته الهادئة الوادعة، بضعه أحرف تكون جملا مفيدة فحواها أنك غير أمين حتى أرسل لك قبسا من نور يدلك بدلا من أن تضلك تلك الأحرف المتناثرة.. إذا..!! لماذا أنت هنا فى تلك الغرفة المظلمة؟ ولما تعبثين بأحرفها خلسة؟ هل أنت لصة، أم أنك عابثة..؟ أم تراك ماجنة تستمتع بآلام الآخرين؟، ما هو معيار الأمانة فى غرفة مظلمة بالنسبه لك؟ كيف أثبت لك حسن النوايا؟ هل نحن نلهو، أم أنك تقذفين بطٌعم إلى مياه البحر لعلها تخرج إليك بسمكة ليس لها من أمرها شىء تتراقص أمامك فى الهواء تصيدينها كى تسد رمق جوعى ينتظرونك فى البيت؟ أو فخ تقبضين به على أرجل طائر حر طليق كى ترضى غرورك الأنثوى هذا إذا ما افترضنا أنك أنثى بالفعل وليس أنثى من خلال الحروف الصماء!! فى هذه الأثناء سمع صوتا رقيقاً يفيض حباً وحناناً يعرفه جيدا لا تخطئه أذناه أبداً وهى تقرع الباب الخشبى قائله.. ياللا ياحبيبى اصحى الفطار جاهز علشان تلحق تروح الجامعة.. عندئذ أسرع بالخروج من الغرفة المظلمة، بينما هو يخرج من تلك النافذة الضيقة فإذا به يشعر بجرح فى قلبه الرقيق الذى لم يتحمل أوهام الغرف المظلمة، أغلق جهاز الكمبيوتر الخاص به وارتدى ملابسه استعدادا للعيش فى النور.