طرح الكاتب البريطانى البارز روبرت فيسك تساؤلات جذرية بشأن حرب إسرائيل المفتوحة على غزة، وذلك فى مقاله المنشور أمس الاثنين بصحيفة الإندبندنت البريطانية، يتساءل فيسك: مم تخاف إسرائيل؟ ولماذا تستخدم عذرها القديم "المنطقة العسكرية المغلقة"، والذى استخدمته منذ سنوات طوال، لتمنع التغطية الإخبارية لاحتلالها الأراضى الفلسطينية؟ يجيب فيسك: المرة الأخيرة التى لعبت فيها إسرائيل هذه اللعبة، كانت فى جنين عام 2000، وأسفرت عن وقوع كارثة. عندما قامت إسرائيل بمنع الصحفيين من مشاهدة الحقيقة بأنفسهم فى جنين، اضطر الصحفيون إلى نقل الأخبار عن الفلسطينيين الذين قالوا إن القوات الإسرائيلية قد تسببت فى وقوع مذبحة بشرية هناك، وحاولت إسرائيل نفى تلك التهمة عن نفسها لسنوات طويلة. والحقيقة هى، نعم، وقعت هناك مذبحة، ولكنها ليست بالحجم الذى وصفه الصحفيون آنذاك. تحاول إسرائيل مجدداً انتهاج هذه السياسة، فرض حظر على الصحافة والصحفيين وإبعاد كاميراتهم خارج القطاع. وقد أعلنت حماس صباح أمس، بعد ساعات قليلة من اجتياح الجيش الإسرائيلى لأرض القطاع، أنها تمكنت من اعتقال جنديين إسرائيليين. ولكن مع عدم وجود صحفى واحد أجنبى فى غزة ليتمكن من كشف الحقيقة من الكذب، أخبر الإسرائيليون العالم أنهم لا يعرفون إذا كان هذا حقيقاً أم لا. ومن جهة أخرى، يسهل شرح أسباب إسرائيل "عديمة الرحمة" لفرض هذا الحظر على الصحافة: وذلك لأن الجنود الإسرائيلية، أغلب الظن، سيقومون بقتل العديد من الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة، وستصبح صور الفظائع والمذابح التى ترتكبها إسرائيل لا تحتمل، مما سيثير حفيظة المجتمع الدولى. ولكن كذلك ساهم الفلسطينيون أنفسهم فى إبعاد الصحفيين عن أرضهم، وذلك حين قامت أسرة فلسطينية قبل أشهر بخطف محرر تابع لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، وقامت حماس بعد ذلك بالإفراج عنه، مما تسبب فى عدم بقاء قناة تليفزيونية أجنبية واحدة فى القطاع. قام الاتحاد السوفيتى عام 1980 بانتهاج نفس السياسة لمنع نقل الصحافة للفظائع التى يرتكبها السوفييت فى أفغانستان، بل وقامت بطرد كل الصحفيين الأجانب من البلاد. وعندما كنت أعمل محرراً فى أفغانستان لنقل أخبار الغزو وعواقبه الوخيمة آنذاك، لم يتمكن أحد من الدخول إلى البلاد، حيث كانت الطريقة الوحيدة للدخول هى مع المجاهدين. يقول فيسك: ليس أمراً مفاجئاً أن تقوم إسرائيل باستخدام نفس أساليب الاتحاد السوفيتى السابقة لتعمى العالم عن رؤية تداعيات حربها الشرسة على غزة. ولكن ما لا تعرفه إسرائيل هو أن أصوات الفلسطينيين سيصل صداها إلى العالم كله، وسيخبر الرجال والنساء الفلسطينيون الذين يعانون من هجمات المدفعية الإسرائيلية الآن، قصتهم المريرة عبر كل السبل الإعلامية المتاحة بطريقة لم تشهدها فلسطين من قبل، سواء أكانت عبر قنوات التليفزيون أم عبر موجات الراديو وعلى أوراق الصحف. وأكد فيسك أن العالم سيتمكن من معرفة الحقيقة العارية دون إضافات أو "توازن" اصطناعى من قبل الصحفيين الذين ينقلون الأحداث على الهواء. وربما تصبح مشاركة الأطراف المعنية فى سرد قصصهم، شكلاً آخر لتغطية الأحداث. ولكن من ناحية أخرى، ومع عدم وجود محررين أجانب فى غزة، لن يتمكن أحد من التشكك فى انتهاج حماس أساليب ملتوية فى مجريات الأحداث. لذا بفرضها حظر على الصحفيين، قدمت إسرائيل لحماس فرصة على طبق من ذهب، الأمر الذى يعتبر نصراً آخر للمسلحين الفلسطينيين. ويرى فيسك أن هناك جانباً مظلماً لهذه الرؤية، مضيفاً: مجريات الأحداث التى تقوم بسردها إسرائيل قد لاقت بالفعل مصداقية كبيرة من قبل إدارة الرئيس الأمريكى، المنتهية ولايته، جورج بوش، وعلى ما يبدو أن حظر الصحافة لا يمثل أهمية كبيرة للجيش الإسرائيلى. وبحلول الوقت الذى نستغرقه فى التحقيق فى المذابح والفظائع التى تقوم بها إسرائيل، سيحل محل ما تحاول إسرائيل إخفاءه وهو أزمة جديدة تستطيع أن تدعى من خلالها أنها فى "خط المواجهة" فى "الحرب على الإرهاب"!