رواية "أفراح القبة" ليست أهم ماكتب نجيب محفوظ لكنها تحتفظ بالسمات العامة لأدب نجيب محفوظ من حيث ارتكاز أعماله على العنصر الإنسانى العام فشخصياته دائما محملة بتنوع وتناقض المكونات الإنسانية للشخصية الواحدة، شخصيات ليست أحادية البعد وإنما شخصيات مجسدة ومجسمة فى الزمان والمكان ودالة عليهما ودالة على الظرف الاجتماعى التى تتحرك فى نطاقه، ولذا نجد أنفسنا كمتلقين لأدب نجيب محفوظ أمام مستويات متعددة للتلقى والتحليل الفنى والموضوعى. لكن ما تمتاز به رواية "أفراح القبة" عن غيرها من روايات نجيب هو تعدد وجهات النظر بها، حيث يظهر ملمح مهم فى الرواية وهو التعددية الصوتية (البوليفونية)، حيث يُروَى الحدث الواحد من خلال أربعة شخصيات فى أربعة فصول كل فصل يروى على لسان أحد أبطال الرواية، وكان نجيب محفوظ من أوائل مستخدمى البوليفونية فى الرواية العربية التى زاد انتشارها فى أعقاب النكسة وما نتج عنها من إحتياج إلى مراجعة المكون الإجتماعى والسياسى والخطاب الثقافى والفنى الخَطابى الأحادى الصوت والتشكك فيه ونقده بل ونقضه. فلا توجد حقيقة مطلقة ولا ثابتة ولا متفق عليها وإنما الحقيقة نسبية متعددة الزوايا. تدور أحداث الرواية داخل مسرح مملوك لسرحان الهلالى مدير وصاحب فرقة الهلالى المسرحية حيث يقرر تقديم مسرحية (أفراح القبة) والتى ألفها عباس كرم يونس المؤلف بالفرقة والتى تتناول أحداثها الحياة الشخصية لأفراد الفرقة وتكشف بل تفضح تفاصيل وأسرار حياتهم وعلاقاتهم الشخصية الخاصة بما تخفيه من إنحطاط وفساد وعهر !! ، فعليهم أن يواجهوا فضائحهم السرية على خشبة المسرح وبشكل علنى أمام الناس . قدمت رواية أفراح القبة على الشاشة الصغيرة من قبل فى مسلسل تليفزيونى قوى فنيا كتب له السيناريو والحوار محمد أمين راضى ونشوى زايد وأخرجه محمد ياسين، والآن تقدم على خشبة المسرح العائم من إنتاج مسرح الشباب من إعداد وإخراج يوسف المنصور، وهو مايجعلنا نتساءل عن الضرورة الموضوعية والفنية لإعادة تقديم الرواية على المسرح وهو مايجعل مدخلنا النقدى أولا هو قياس المسافة بين نص الرواية وبين العرض المسرحى ومدى التشابه والإختلاف بينهما. .... * اعتمدت الرواية على أسلوب السرد الدرامى على لسان أربع شخصيات فى أربع فصول مسرحية بالتتابع وكل شخصية تسرد الاحداث من وجهة نظرها، فقام الإعداد للعرض المسرحى بخلق إطار واقعى كرابط او كدامج بين هذه السرديات فجعل كل شخصية تتداخل أثناء عرض المسرحية وتعترض على المشهد وتوقفه وتبدأ فى عرض مبرراتها من وجهة نظرها، وهو حل قوّى من ترابط البناء الدرامى للعرض ودَمَج بين فصول الرواية المنفصلة فصهرها فى بناء واقعى متماسك دراميا، بالإضافة إلى خروج العرض من رتابة السرد فى الرواية وتحويلها الى أسلوب المسرحة والتشخيص الحدثى مماينعكس إيجابيا على إيقاع العرض، فهى إضافة تُحسب للإعداد المسرحى لنص الرواية. وإن كان هذا الحل لم يمنع تكرار بعض المشاهد فى العرض حتى ولو كان هذا التكرار مُبرَرا دراميا لضرورة سبر أغوار الشخصيات دراميا وتفسير أبعادها ودوافهعا النفسية وإختلاف وجهة النظر للحدث الواحد من شخصية لأخرى لكن هذا التكرار مع إضافة بعض الجمل الحوارية للربط كل هذا زاد نسبيا من طول زمن العرض وخصوصا أنه لايوجد فترة إستراحة طوال المسرحية مما خلق نوعا من الإرهاق على المتلقى إنعكست سلبيا على إيقاع تواصله مع العرض ولو بدرجة بسيطة لكن وَجَب التنبيه إليها. ...... * آلية التقاطع والتداخل بين الشخصيات وبين أحداث المسرحية التى تقدم على المسرح وقيام الشخصية الأساسية بالتعليق على الحدث الدائر على المسرح وإن كان قد تم تقديمه فى إطار واقعى لكن هذا الإطار كان إطارا حاويا فقط ، فتزامَن الحدث الواقعى مع زمن الماضى الذى تدور فيه مشاهد المسرحية التى تقوم الفرقة بتمثيلها وإنقسمت الشخصيات مابين واقعها اللحظى وبين ماضيها فظهرت الشخصية فى مرحلتين عمرييتين مختلفتين فظهر ممثلين إثنين لنفس الشخصية فى المشهد الواحد ، هذا التفتيت للزمن والمكان والشخصيات أخرج العرض من إطاره الواقعى الخارجى وخلق إمتدادات تعبيرية أخرى داخله . هذه الإمتدادات أدت أولا إلى إثراء الحالة المسرحية للعرض فنيا وشدت من إيقاعه وعمقت من بناء الشخصيات والأحداث حيث تعددت زوايا الشخصية الواحدة فظهرت فى العرض أكثر وضوحا وفهما لتكوينها النفسى ، وثانيا : نظرا لأن مشاهد المسرحية التى تقوم الفرقة بتمثيلها داخل العرض تم إخراجها فنيا أيضا وفق المنهج الواقعى (الماضى) مما خلق تجانسا منهجيا بين الإطارين (إطار العرض الذى نشاهده وإطار العرض الى تمثله الفرقة) هذا التجانس بين الإطارين سهّل عملية التداخل والتقاطع بينهما التى ولدت نوعا من التفاعل والحراك الزمنى بين الزمنين وبالتالى بين دلالاتهما الموضوعية بما يحمل ملامح المنهج التكعيبى الذى يفتح الباب لإمكانية أن ينتقل هذا الحراك الزمنى إلى المتلقى بالتبعية من زمن العرض الى الزمن الحالى الذى نعيشه الآن مما يمد جسور الإسقاط على الواقع الحالى وهو ما لم يكن بنفس القوة فى نص الرواية . ومن ناحية أخرى أدى تداخل الشخصيات وتقاطعها مع أحداث المسرحية التى تقدمها الفرقة إلى التماس بدرجة ما مع منهج كسر الإيهام حتى لو لم يكن كسرا مكتملا وانما كان كسرا داخليا جزئيا ، فنحن كمتلقين لم يُكسَر إيهامنا بالعرض العام وفق الإطار العام الواقعى الذى تحدثنا عنه سابقا ، ولكن الشخصيات كسرت إيهام العرض الداخلى بالتقاطع والتعليق عليه ، ودعم ذلك الملمح أيضا وجود مسرح داخل مسرح وما تبعها من تغيير الديكور أمام الجمهور والحوار مع القائمين على الإضاءة كل هذه الآليات قوت التماس مع منهج كسر الإيهام الجزئى والمعروف ان منهج كسر الإيهام يفتح مساحات اوسع لعقلانية وموضوعية عملية التلقى وهو بالضرورة يقوى أيضا جسور الإسقاط على الواقع الحالى وهو ما لم يكن بنفس القوة فى نص الرواية . وهى إضافات إخراجية منهجية موفقة للعرض . .... * رصدت الرواية مكونات البنية القيمية للمجتمع المصرى فى حقبة الستينات والسبعينات وعرّت مدى التناقض بين المُعلَن وبين المسكوت عنه ، ففى حين كانت شعارت المرحلة تطنطن بقيم مثالية عن المساواة والحرية والإشتراكية كان الواقع المتحقق ملوثا بقذارات الفساد والتآمر والفقر والقمع ، وهذه الفجوة بين مثالية الشعار المُعلَن أو الحلم وبين مادية الواقع المتحقق على الأرض تنذر بتفكك وتهلهل البناء المجتمعى لدرجة قد تؤدى إلى إنهياره كليا وهذا ماحدث حتى وصلنا الى النكسة ، فالنكسة لم تكن مجرد نكسة عسكرية وانما كانت نتاجا حتميا لكل تناقضات وتناحرات مكونات البنية الاجتماعية والسياسية والقيمية للمجتمع المصرى المتنافرة قبلها وبعدها - جاء فى نص الرواية " فحتى الهزيمة لم تزعزع أركاننا ، ومادامت الأناشيد لم تتغير ، ولا تغير الزعيم ، فماذا تعنى الهزيمة ؟!! " - فحتى بعد تجاوز الدولة للهزيمة العسكرية بانتصار اكتوبر "عسكريا" ظلت هذه المكونات ضاربة فى عصب البناء القيمى للمجتمع المصرى وكل ماحدث ما هو إلا تحول شعاراتى فقط فى الإتجاه العكسى لكن بنفس العطب فى البنية القيمية المكونة للمجتمع ، هذا هو الإطار الموضوعى والظرف التاريخى الذى دارت فيه وانطلقت منه أحداث الرواية ، وبالتالى انطلق البناء الدرامى للشخصيات أولا من منطلق إجتماعى إنعكس على تكوين كل شخصية نفسيا فخلق دوافعها وخصائصها النفسية المحددة لسلوكها ، فتحليل البنية الإجتماعية لتلك الفترة كان الهدف الموضوعى الأهم للرواية وإستنادا عليه كانت رؤية الرواية ان النكسة لم تكن نكسة عسكرية فقط وإنما نكسة إجتماعية ذاتية لها جذورها من قبل النكسة وبما أننا لم نصلح او نعالج عطب تلك الجذور فستستمر بعدها وهو ماكان بالفعل . هذه رؤية الرواية فى نص نجيب محفوظ وإلتزم بها الإعداد المسرحى فى بناء الخط الدرامى للشخصيات ماعدا شخصية تحية التى قام الاعداد المسرحى بتغيير خلفياتها الإجتماعية الواردة فى النص وجعلها فتاة من بورسعيد عقب العدوان الثلاثى تم تهجيرها هى وأختها "سعادة" الى الشرقية وأن أختها كانت ضمن التلاميذ الذين تم قصفهم فى مدرسة بحر البقر مما سبب لها صدمة نفسية كبيرة ، ولا أرى اى إضافة موضوعية قد أضافها هذا التغيير فى شخصية تحية بل على العكس جرد شخصيتها من بعدها الإجتماعى وسلخها من جذورها الإجتماعية وأخرجها من منطقية البناء الدرامى العام للعرض المرتكز على البعد الإجتماعى فموضوع تهجيرها بعد العدوان الثلاثى من الناحية الإجتماعية هو نتيجة وليس سببا او دافعا نفسيا لمسار الشخصية دراميا فيما بعد فى حين ان خلفيتها الإجتماعية الواردة فى نص الرواية أسّسَت بشكل قوى ومتماسك منطقيا ودراميا الدوافع النفسية لسلوكها فيما بعد ، فتحية فى الرواية لمن لم يقرأها هى بنت الفقر والإحتياج خارجة من بيئة سيطر عليها تسليع الجسد فهى انعكاس لإتجاه المجتمع الى سياسة الإنفتاح الساداتية التى سلّعَت كل القيم الأخلاقية وجعلتها قابلة للبيع ، فأمها كانت "حفافة للنساء" وهى مهنة لها علاقة مباشرة بالجسد ، وابوها حرق جسد أُمها حين رأته فى وضع شاذ جنسيا مع طفل وهى حادثة لها علاقة بالإنحراف الجسدى ايضا ، وأخواتها "اخت راقصة واخت وصحفية" ربتهم امهم على قناعات ان اجسادهن بضاعة تفتح الابواب المغلقة فى طريق الترقى الإجتماعى "الرجالة زى الكلاب ليه ترميلهم لحمة لما ممكن ترميلهم عضمة !!" ، حولت أجساد بناتها إلى سلعة فقط للبيع ، " السمانة بجنيه لكن الصدرباربعة جنيه" ، لذا كانت اولى خطوات تحية فى طريق تحررها النفسى أنها إتجهت الى علاقة جسدية مع طارق لكن بدون مقابل فكان اول تمرد لتحية هى تحرير جسدها من مستنقع النفعية والإنتهازية والتسليع وربطه بمشاعر الحب الحُر ، فالجسد عند تحية هو مفتاح تكوينها ونقطة ارتكازها النفسى (والدلالى)، والجسد يعنى التحقق المادى ، فحتى حلمها كان حلماً بالإمتداد الجسدى (الإبن) وهو مالاقى هروبا من حبيبها طارق رمضان المكتفى بالأحلام النظرية والخوف من الارتباط والقيد فتهرًبَ من الزواج منها فتحولت عنه وهجرته بالزواج من عباس كرم الذى بادر بتحقيق حلمها (الابن) وأول كلمات اعتراف عباس بحبه لها كانت جملة من كلمتين مرتبطتين بمفتاحها النفسى (بحبك .. تتجوزينى؟!) ،، هكذا بنى نجيب محفوظ شخصية تحية دراميا فجاء بناؤه متماسكا منطقيا متسقا مع الإطار الموضوعى العام للرواية محللاً ومشرحاً للخفية الإجتماعية التى تشكلت بها شخصية احية نفسيا فشكلت ملامحها ودوافعها النفسية ، لكن جاء الإعداد المسرحى فجرد شخصية تحية من كل هذه الخلفيات الإجتماعية وسلخها عن جذورها ودوافعها النفسية وربطها بحَدَث العدوان الثلاثى وحَدَث "قصف مدرسة بحر البقر" وهما حدثان يعتبران نتيجة وليسا سببا نفسيا عميقا لسلوك الشخصية إجتماعيا ونفسيا فيما بعد ، فهما مجرد حدثان مهما بلغت قوة تأثيرهما قد يؤديان فى أقصى الحالات الى تحول مسار شخصية لكنهما لايشكلان بيئة او خلفية إجتماعية تؤثر تراكميا فى تشكيل البناء النفسى للشخصية ، فالتعديل فى شخصية تحية سطّحَها دراميا وفصلها عن الإطار الموضوعى العام الإجتماعى والنفسى للعرض والرواية فظهرت فى العرض كالنبتة الضعيفة الهشة الذابلة وسط غابة من الأشجار العتيقة الضاربة بجذورها فى الارض . ..... * تعمد نجيب محفوظ ان يترك نهاية الرواية مفتوحة وقد ألقى فى ذهن المتلقى يتسائل "من قتل تحية ؟" وهو سؤال أجابت عليه الرواية طوال تصاعدها الدرامى فالجميع شارك فى قتل جزء من روح تحية قبل ان يموت جسدها وهو إسقاط على الوضع الإجتماعى المتهلهل والغارق فى العفن والفساد والإنتهازية وتسليع القيم على حساب الروح الإنسانية مماينذر بتكرار نكسة جديدة ليست عسكرية وانما نكسة حضارية كافية بأن تقتل الروح المصرية قبل تقتل جسده عسكريا ، لكن العرض المسرحى أصر على تحديد القاتل فى شخص سرحان الهلالى وانه كان المتحكم فى كافة خيوط اللعبة من خلف الستار وهو وإن كان به نوع من الإسقاط السياسى على تحكم السلطة السياسية العليا سواء المحلية أو الدولية فأكتشفنا فى نهاية العرض ان الموضوع ماهو سوى لعبة سياسية مخابراتية عُليا حيث تتحكم فيها قوى السلطة العليا !! ، فلماذا إذاً كان كل هذا الغوص فى قاع البيئة الإجتماعية للشخصيات والأحداث التى ظل العرض يقدمها ويسهب فى شرحها منذ بدايته لنهايته وكأن كل ما قُدِّمَ طوال العرض لم يكن له أى قيمة درامية او دلالية ، ومن ناحية أخرى تحويل مسار الأحداث الى مجرد قصة بوليسية وتحويل العرض (على مستوى الحدث) الى قصة بوليسية يهتم بمن القاتل ويجسده فى مشهد مستهلك كثيرا فى الأفلام العربية (حيث نكتشف أن الرجل المجهول والمهمش طوال الفيلم هو الرجل الثانى فى العصابة !!) هذا التحول الى الطابع البوليسى وبهذا الشكل المُستهلَك والسريع والغير مُبَرَر دراميا قد سطح مضامين العرض نفسه قبل الرواية ودلالاته الفنية والموضوعية وهبط بالمستوى الفنى للعرض فجعله يحلق تحليقا شديد الإنخفاض بعد ان كان طوال العرض يحلق فنيا عاليا فى سماوات فنية مفتوحة !! . ...... جاء الديكور وفق المنهج الواقعى فى عمومه مراعيا دلالات العرض خصوصا فى ديكور البيت القديم ، فانقسم عُمق الفراغ المسرحى (فى البيت) الى دورين الدور الاول لمعيشة كرم وحليمة وعباس ومن قبلهم كان ماضى كرم وحياته مع أمه ، والدور الثانى ينقسم الى إتجاهين الاول ينتهى الى طاولة القمار والثانى الى حجرة طارق ، وتتلاقى جميع الإتجهات فى سلم صاعد فى المنتصف فى مواجهة الجمهور ، وهو تقسيم مكانى يتوازى اولا مع الوضع الطبقى للشخصيات ويجعل كل من نشأ فى بيئة الفقر الإجتماعى فى المستوى السفلى يتطلعون إلى صعود سلم الإرتقاء الإجتماعى لكن يتم إغتصاب حاضرهم وماضيهم وسلب مستقبلهم فيظلوا فى مكانهم لايصعدون هذا السلم . ويتوازى ثانيا مع مسارات وإتجاهات التطور الدرامى للشخصيات ودلالاتها الموضوعية فيُعلِى من مكانة طاولة القمار كدلالة على ترقى مكانة رموز الفساد والتسليع المالى فعلى هذه الطاولة تُباع وتُشترَى كل القيم الأخلاقية . لكن يميز الديكور فى تقسيم الدور العلوى بين إتجاهين بين الإنحطاط والفساد الإنتهازى لطاولة القمار وبين إنحراف حلم طارق بالمبادىء والشعارات المثالية الطوباوية العاجزة عن التحقق الفعلى على ارض الواقع فنجد السلم فى الدو العلوى إنقسم إلى إتجاهين مختلفين . فمالت واقعية الديكور إلى الواقعية الرمزية . أما فى ديكور مسرح الهلالى فقد استخدم رمزية ستارة المسرح كموتيفات بصرية متناثرة فى عُمق المسرح فصنع ترديدا بين ستارة المسرح الحقيقية فى مقدمة الخشبة وستارة المسرح الديكورية فى العمق ، فمن ناحية وجود ستارتين تحاصران فراغ خشبة المسرح من العمق إلى المقدمة يوحى بأن هذا المكان كالمصيدة المغلقة التى تحاصر كل من تدخل قدمه بداخلها بما يتوازى مع دلالات الأحداث بالعرض ، ومن ناحية أخرى فهذا الترديد بين الستارتين يخلق أثرا تكعيبيا يعدد مستويات الربط والإسقاط الدلالى بين خشبة المسرح والواقع الحالى للمتلقى . فنجح الديكور من خلال الواقعية الرمزية فى التوازى مع دلالات العرض وتوصيل مضمامينه بكل سهولة وبساطة وقوة ونجح أيضا بصريا فى استخدام الفراغ المسرحى بكل مستوياته ومساحاته . فى حين اتجهت الإضاءة المسرحية الى التعبير عن الحالات النفسية للشخصيات والتوازى مع الأجواء الشعورية للحدث المسرحى فى حدود دلالة المشهد الموضوعية ، فمالت الإضاءة فى عمومها الى الخفوت العام وتقليل الإنارة بما يتوازى اولا مع أجواء التآمر ويتوازى وثانيا مع طبيعة الأماكن الموحية بالتخفى والسرية خصوصا فى البيت القديم ، مع التركيز الفردى (البؤرى) على كل شخصية على حده بما يتوازى مع خصوصية الحالات النفسية للشخصيات ومع حالة العودة الى تذكر الماضى (الفلاش باك) فجاءت الإضاءة كأنها فلاشات ضوئية منتقاة من الذاكرة ، فانتهجت الإضاة المنهج التعبيرى الإختزالى والإنتقائى ، فنجح عمرو الأشرف فى تصميمه للديكور والإضاءة فى التعبير عن المعنى والدلالة الفنية وإبرازها كسياق بصرى للحالة المسرحية فكان تصميمه قوى موضوعيا وثرى جماليا فحقق مبدأ السهل الممتنع . ... التزمت الحركة المسرحية بالمنهج الواقعى العام المُجَسِد للحدث والمُعَبِر عن ردود الفعل النفسية للشخصيات والمُراعى لطبيعة العلاقات بينها ، مع بعض الخروج من الواقعية إلى التعبيرية فى بعض المناطق من خلال التعبير الحركى (لمناضل عنتر) بما يتناسب مع الحالات النفسية للشخصيات ومع الدلالات الموضوعية للعرض مما شد من إيقاع الحالة المسرحية بالتنويع الفنى فى أليات الإبداع والتلقى شعوريا وبصريا ، فإرتكاز العرض على العنصر التمثيلى قلل من تحميل الحركة عبء توصيل مضامين العرض وهو مايتناسب مع طبيعة المنهج الواقعى المرتكز على أدوات الممثل بشكل أساسى . .... أما من ناحية الأداء التمثيلى فلا نملك سوى الإشادة والتقدير الشديد لكل الممثلين الذين عزفوا سيمفونية رائعة فى فن الأداء التمثيلى الواقعى سواء التراجيدى او الكوميدى ، فغاصوا فى عمق الشخصيات بدرجة من الوعى والتركيز الشديد والتمكن من أدواتهم التمثيلية والخبرة الفنية العالية رغم حداثة سن الكثيرمنهم ، فتمكنوا من رسم ملامح الشخصيات النفسية بدقة ومصداقية عالية ، فكان عنصر التمثيل هو العنصر الأقوى والأهم فى عناصر العرض المسرحى وكان نقطة إرتكاز العرض فنياً ، فلايسعنا هنا سوى تقديم الإشادة والتقدير لهؤلاء الفنانين الشباب الموهوبين وهم حسب الظهور : محمد تامر – سمر علام – الطفل حمزة رأفت – مينا نبيل – أحمد صالح – يوسف مصطفى – مينا نادر – أحمد عباس – باسم سليمان – مارتينا رؤوف – حسام علاء – هدير طارق. والفنانون الرائعون الذين عزفوا صولوهات تمثيلية من أروع مايكون الأداء التمثيلى الصادق والمحترف فاطمة عادل – محمد عبد القادر – جيهان أنور – محمد يوسف – هايدى عبد الخالق - عبير الطوخى – ياسمين ممدوح وافى وللأسف لايتسع المقال هنا لوصف المستوى الفنى الرفيع الراقى الذى امتعونا به لكُلٍ منهم على حِدَة. أما الممثل المبدع عبد المنعم رياض فقد أدى دور سرحان الهلالى بشكل راسخ على خشبة المسرح باقتدار وتمكن من استخدام أدواته التمثيلية كافة (الصوتية والشعورية والجسدية) بإحترافية عالية وبمصداقية تجعل المتلقى لايمكنه الفكاك من أسر حضوره الفنى وإستحواذه على إيقاع الحالة المسرحية فى كل درجات وتنويعات أدائه التمثيلى سواء فى حالات الإنفعال الشعورى العالية او الهادئة فهو من الممثلين الذين لهم سطوة فنية ممتعة على خشبة المسرح . ...... فى النهاية جاء العرض المسرحى أفراح القبة عرضا قوى المضمون متماسكا فنيا حافظ على ملامح رواية نجيب محفوظ وفسرها تفسيرا فنيا عالى المستوى وإن اختلف معها (واختلفنا معه) فى بعض وجهات النظر وهذا حقه الإبداعى طبعا لكنه يبقى من العروض الهامة والممتعة فنيا وفكريا ، عرض يشير بوضوح الى موهبة إخراجية واعية ومهمومة بالبحث الموضوعى والتجديد المبدع والأصيل فى الفن المسرحى فتحية تقدير للمخرج الموهوب يوسف المنصور . ومن الملاحظ انه فى الفترة الأخيرة إمتاز مسرح الشباب بالتدقيق فى إختياراته الفنية للعروض المنتجة من خلاله بما تتميز به من رقى المستوى الفنى والثراء والتنوع الإبداعى الذى لايخلو من جرأة فنية نأمل أن تكون قادرة على تحريك الماء الراكد بالمسرح المصرى فتحية تقدير للقائمين عليه وبدون ذكر أسماء فهم معروفون وأغنياء عن التعريف. أيمن غالى أفراح القبة نجيب محفوظ