شهدت بداية الألفية ما يمكن تسميته ب "الطفرة الصحفية" التى تواكبت مع ظهور الصحافة الخاصة المستقلة التى شكلت نقلة نوعية فى الشارع الصحفى، سببت نوعا من الإزعاج للنظام السياسى من ناحية، وأحدثت نوعا من الارتباك فى الشارع من ناحية أخرى. "فبشكل مفاجىء، استفاق الشارع المصرى على كم هائل من قضايا الفساد المالى والإدارى فى مؤسسات الدولة، كان يجرى التعتيم عليها فى السابق، وأسقطت الكثير من التابوهات، فلم يكن متاحا التعرض لشخصيات سياسية على أوراق الصحف، ومحاسبتهم على ذلك.واستطاعت الصحافة المستقلة تحقيق الكثير من المكاسب، لم تكن عطية من عطايا النظام، لكنها مكاسب انتزعتها قوى حرية الصحافة والرأى والتعبير إلى جانب حركات الدفاع عن هذه القوى". وهو ما يؤكده د. إبراهيم نوار، رئيس المنظمة العربية لحرية الصحافة،. ويضيف : "هناك خطأ يتصوره البعض، أنه كلما زادت شراسة المعركة بين القوتين المتصارعتين كان ذلك مؤشرا على تراجع مصر من حرية الرأى والتعبير، فحرية الصحافة والرأى فى الوقت الراهن أضحت معركة بين فريقين، يتمثل الأول فى القوى الطامحة إلى حرية الصحافة والرأى والتعبير، وبين النظام الذى أثبت أنه كلما سنحت له الفرصة لفرض مزيد من القيود على حرية الصحافة لا يفوتها". بينما اعتبر د. حسين أمين، رئيس قسم الإعلام بالجامعة الأمريكية، أن ما يحدث يمكن النظر إليه فى سياق المرحلة السياسية الراهنة من حيث التحول إلى النظام السياسى الرأسمالى الليبرالى، وفى هذا الإطار تظهر عوامل تخبط عديدة، من حيث الضوابط والموازين، ربما لأن مصر لا تزال فى مرحلة التحول ولم تتجاوزها بعد، ومن المتوقع بالنسبة للعلاقة بين حالة حرية الصحافة وبين السلطة أن يكون هناك نوع من التعثر الظاهر، وهذه سمة لا تواجه مصر وحدها بل واجهت معظم الدول التى اجتازت هذه المرحلة، لكن من الصعب غض الطرف عن السماح بإطلاق شىء من هذه الحريات نظراً للطبيعة الزمنية التى يمر بها العالم أجمع، وهو ما حدث فى مصر خلال العقد الماضى. أيضا تواكب ظهور منظمات الدفاع عن حرية الصحافة والصحفيين، وهو ما ساعد على الكشف عن كثير من عورات وعيوب القوانين، ومدى الانتهاكات التى تحدث، فتكشف تقاريرها على الدوام مدى سخونة العلاقة بين النظام السياسى وبين الجماعة الصحفية ، ويقول نوار "كلما زادت حالة الشراكة بين القوى الأولى، كلما زادت الشراكة بين النظام وجماعات المصالح المرتبطة به. والعكس هو الصحيح فى هذه المسألة، فلو نظرنا إلى دول مثل ليبيا أو السودان، لوجدنا أنها قليلاً ما تسجل حالات انتهاكات ضد حرية الصحافة، وذلك قد يكون مؤشراً أخطر، بل إنه يعبر عن فجوة بين الجماعة الصحفية وصفوف المدافعين عنها، فمن المؤكد أن غالبية المسئولين عن تطبيق قوانين المطبوعات والنشر والأمور المتعلقة بذلك لا يريدون التنازل عنها، بل ويسعون إلى فرض المزيد منها". أصبحت هناك حالة من التفاعلية بين الرأى العام والصحافة، ولكن العديد من هذه التجارب لم يصمد أمام الموجة الضارية التى شنها النظام ضدها، فأغلقت صحف مثل "الشعب"، بعد أن تناولت شخصيات سياسية بارزة فى مصر، كان من بينهم نائب رئيس الوزارء السابق د. يوسف والى. وتنبه النظام إلى أهمية التعاطى مع الانطلاقة الجديدة للصحف التى فرض على إصدارها سلسلة من الإجراءات البيرقراطية الصعبة، فبدأ الحديث عن سلسلة القوانين التى اتخذت منحى سياسيا فى الغالب، بفرض قيود على حرية إطلاق الصحف، ومحاسبة الصحفيين. والأهم من ذلك، حرية تداول المعلومات ومدى الشفافية والمساحة بين الصحافة والنظام. ومع كل خطوة للأمام، كانت زيادة القيود المفروضة تعود إلى الخلف عشر خطوات، واقترنت أى حالات إيجابية أو سلبية بمدى قبول النظام أو رفضه للسياسة التى تدار بها هذه الصحف، فحاول احتواء بعضها، وأغلق بعضها، وظل يراوح مواقفه مع أخرى، بحسب حالة المزاج السياسى السائد. ووصل الأمر إلى تقديم الوعد الرئاسى بعدم حبس الصحفيين وقصف الأقلام ومشروع قانون تنظيم عمل الصحافة فى الدستور والقوانين، ولكن رغم التعديلات القانونية التى طالت مواد سلطة الصحافة، إلا أن النظام أبقى على سياسة المنح والعفو، كما حدث مع إبراهيم عيسى رئيس تحرير جريدة الدستور الذى صدر قبل أيام عفو رئاسى عنه بعدم حبسه شهرين فى القضية المعروفة باسم "شائعات صحة الرئيس". وتحركت هذه القيود أخيرا لتنال من بقية وسائل الإعلام، ومن الفضائيات، فبعدما عجز الإعلام الرسمى عن اللحاق بمواكبة التطور الإعلامى، مع ظهور الفضائيات الخاصة، وحالة الانتشار العالية التى استقبلت بها فى الشارع المصرى، بدأ النظام يفرض المزيد من القيود على هذه الوسائل، وآخرها وأخطرها مشروع قانون تنظيم البث الفضائى. لكن أمين يرى أن الحريات يجب أن تكون مسئولة وليست مطلقة بل يجب أن تحكمها الكثير من الضوابط ، ومسألة القوانين التى تنظم عمل الصحافة موجودة فى أغلب دول العالم حتى التى لا يجب أن نقارن مصر بها ، مثل الولاياتالمتحدة التى حظرت النشر أحيانا بدعوى الأمن القومى ، واستقطبت صحفيين للتوجهات السياسية أحيانا، وهو ما حدث فى الحرب على العراق، وظهرت فيما بعد الخفايا والخبايا التى تورطت فيها أسماء صحفية لامعه. فى حين يتوقع نوار أن الفترة المقبلة التى يمكن توقعها فى ظل العامين أو الأعوام الثلاثة المقبلة، سوف تشهد المزيد من القيود، نظرا لطبيعة تلك الفترة، فهناك انتخابات مجلس الشعب فى2010، وانتخابات رئاسة الجمهورية فى 2011، وهى أعوام يمكن أن نطلق عليها "أعوام الحسم السياسى" فى مصر، التى سترسم خلالها شكل الخريطة السياسية فى مصر. فى المقابل يرى أمين أن الحديث عن السنوات المقبلة يقتضى التفكير فى أن ما تحقق من مكاسب من الصعب الرجوع عنه، فإذا كانت هذه هى أعوام الحسم السياسى، فلا يمكن القبول بردة على ما حدث خلال السنوات السابقة، بل سيكون هناك مزيد من التقدم للأمام، لكن سيكون بوجه مختلف ووفق ضوابط ومعايير مغايرة، اللهم إلا إذا حدث تغيير فى النظام نفسه على نظام عسكرى، على غير المتوقع، وهو "ما لا أتوقع شخصيا حدوثه" .