"هنا الهرم الأكبر.. يمكن أن ترشى أحد الحراس من أجل قضاء ليلة داخل حجرة الملك، هذا هو أول ما كنت أسمعه عندما كنت طالباً في مجال المصريات مع زاهي حواس منذ 34 عام مضت، فقد كان هذا بمثابة اختبار لولاء حرس الأهرام (ولحسن الحظ لم يقابل عرضي بأي نوع من الاستخفاف). أما حواس والذي كان مفتش آثار شاب بالجيزة، فقد ركز كل اهتمامه على حماية آثار مصر، وهو الاهتمام الذي تنامى في العقد الماضي مع صعود نجمه بقوة باعتباره أشهر الشخصيات المتعلقة بالآثار المصرية. أما الزوبعة التي حدثت خلال الأشهر الماضية والتي أثرت على أغلبنا، هو ما حدث على حين غرة خلال الثورة. فقد ترنحت مكانة حواس والمواقع الأثرية نوعاً ما بشكل محفوف بالمخاطر منذ اندلاع الثورة، حيث إن كلاهما بمثابة رمزية لولادة عسيرة وغير مستقرة لعصر ديمقراطي جديد يعم جميع المصريين. وإذا ما توارت ثقافة الخوف واليأس وعدم المساواة فإن العالم سوف يشهد قوة عارمة للشعب المصري. كيف يرى علماء المصريات تلك الأحداث عبر أعين الحضارة المصرية القديمة؟ كما تبدل الحال رأساً على عقب، فإنه يمكن للبعض أن يتذكر نصائح أحد حكماء مصر القديمة ويدعى إيبور، حيث إن بعض عبارات من نصائحه تكاد تشير إلى حسنى مبارك نفسه عندما قال: "إننا لا نعرف ماذا سيحدث بالبلاد..فإن قوانين مجلس الوصاية قد ضرب بها عرض الحائط..أنظر كيف سارت الأمور والتي لم تحدث مثلها منذ وقت طويل..ها قد عزل الملك على يد الحشود..لقد ضللت أنت عامة الشعب ويبدو أن قلبك يفضل إهمال المشاكل..هل قمت بما يجعلهم سعداء؟؟ هل منحت الحياة للناس؟؟ لم يفقد أغلب المصريون كرامتهم وأخلاقهم السامية في مواجهة النظام المستبد والذي فضل رعاية الطبقة العليا بينما ضيق الخناق على السواد الأعظم من الشعب طيلة الأعوام الماضية. وكانت مظاهر الاستبداد والفساد والمحسوبية والاعتقالات الوحشية تحت حكم قانون الطوارئ الذي دام 30 عاماً قد صدم أغلب طبقات المجتمع. كما أن النظام الحاكم قد أعاق وجود حريات سياسية وقلص من التطور الاقتصادي لصالح قلة محظوظة مرتبطة بالنظام. ماذا كان دور التراث الحضاري المصري القديم في فترة الثورة؟ فمتى ستعود السياحة ومتى يسترد الاقتصاد عافيته؟ وماذا عن المطالبات باستعادة التراث المصري ومنه رأس الملكة نفرتيتي ببرلين وبقية القطع الفنية الأخرى؟ فقد قام العديد من المثقفين داخل وخارج البلاد بالسطو على تلك الأفكار خلال فترة الثورة من أجل خدمة مصالحهم الشخصية وأجنداتهم الخاصة بعدما أثبتوا أنه من النادر فصل الآثار عن السياسة. وفي الوقت الذي أكتب فيه هذا المقال، يقوم المصريون أنفسهم بالتخطيط لشكل النظام الجديد الذي سيحكمهم واضعين في اعتبارهم سياساتهم تجاه الآثار. ففي غضون أسابيع قليلة ماضية انفصل المجلس الأعلى للآثار عن وزارة الثقافة وأصبح وزارة منفصلة، في الوقت الذي سقط مبارك واختفت الشرطة وأصبحت بعض المواقع الأثرية ومنها المتحف المصري بالتحرير عرضة للسرقة. ونتيجة ذلك، تقدم زاهي حواس باستقالته اعتراضاً على استمرار السرقات وفقد المجلس الأعلى للآثار استقلاليته كوزارة منفصلة، إلا أن رئيس الوزراء عصام شرف لم يستطع اختيار خليفة له ليسد هذا الفراغ. وهذا الوضع قد فتح نافذة غير مستقرة للعصابات المسلحة في اقتحام العديد من المواقع وضرب الحراس العزل وكسر مخازن الآثار وسرقتها. أما على الجانب الآخر قام العديد من أهالي المناطق بالبناء غير المصرح فوق المناطق الأثرية ومنها بناء جبانات فوق مقابر أثرية. وفي أواخر شهر مارس، قام رئيس الوزراء بإعادة تعيين زاهي حواس وزيراً للآثار. ويبدو أنه هناك القليل الذين يمكن أن يملئوا هذا الفراغ في هذا الوقت الحرج. وما لا يعرفه العامة عن حواس هو أنه خلف المعارك الإعلامية ومقالات الصحف المبالغ فيها وصراعه مع مديرين المتاحف أصحاب الشخصيات العنيدة والصلبة في جميع أنحاء العالم. يعمل تحت ضغط طيلة سنوات من أجل حماية الآثار ووضع خطط لإدارة المواقع وبناء متاحف ومخازن جديدة وتجديد قواعد نظم المجموعات الأثرية والارتقاء بمستوى المطبوعات العلمية وتطوير مستوى التأمين الصحي للعاملين وتدريب وتوظيف جيل جديد من طلبة المصريات من المصريين. . وبالإضافة إلى محاولات مصر في نشر تراثها الثقافي واسترداد القطع المسروقة، قام حواس بتشجيع عدد من البعثات الأجنبية العاملة في جميع أنحاء البلاد، وهو ما يعد أمر توازني صعب بالنسبة لوجود ضغط داخلي وخارجي. ويعتبر حواس –بالطبع- ليس وحده ضمن عملية إعادة تشجيع الوعي المصري حول تراث الوطن القديم والمبهر، حيث يمكن رؤية تلك المجهودات المشتركة ضمن "الدروع البشرية" التي تكونت من أفراد عاديين من الشعب المصري لحماية المتحف المصري ضد اعتداءات الخارجين عن القانون خلال فترة الثورة. فخلال عمليات السطو والتدمير والتي اعتلت عناوين الأخبار العالمية، كان هناك أبطال مصريون حقيقيون في جميع أنحاء البلاد عملوا على حماية المواقع الأثرية وتحملوا قدراً من الخطورة في ظل غياب الشرطة. وتلك القصص أجدر بأن نقرأها والتي تستحق التكريم والعرفان بالجميل وذلك لكل من ساهم في الحفاظ على التراث الفرعوني والقبطي والإسلامي. وتواجه مصر تحديات كبرى حيث إنها تعد حديثة العهد بالديمقراطية، ويجب علينا الانتظار لرؤية ماذا سوف يحدث. ولكن بالنسبة للغرب فإنه يجب علينا تخفيف حدة الخوف والقلق حول المناطق الأثرية. فالتراث المصري لن يلقى نفس مصير تماثيل بوذا بمدينة باميان بأفغانستان، فلا يهمنا الاتجاه الديني للحكومة المصرية القادمة. . فالمصريون يقومون بحماية تراثهم القومي من خلال خبرائهم المحليين أكثر مما مضى. ويملؤني التفاؤل بأن التاريخ الفرعوني سيكون في أيد أمينة من خلال الأجيال القادمة، وإن كان التحدي في جعل هذا الجيل متفتح دون تخريبه من الجيل القديم مع وجود قدر كاف من الدعم الاقتصادي والفكري وهو ما سيساعد عليه المجتمع الدولي. وأرى أن هناك الكثير من الأشياء سوف تتغير، ولكن هناك الكثير أيضاً سيظل على حاله متوغل في القدم. فالمعابد والمقابر مازالت تحتاج للحماية والصيانة، كما أن هناك العديد من العوامل مثل الوقت والتلوث والإهمال والتعديات وتجارة الآثار مازالت الأحزاب السياسية ولجنة صياغة الدستور غافلة عنها. وما نأمل إليه هو العودة السريعة للاستقرار وحماية أكبر متحف مفتوح في العالم وهو مصر نفسها. ويعمل المجتمع الدولي على تحديد ما يمكن القيام به لصالح التراث الثقافي المصري من خلال محاضرات للمتخصصين المصريين وتقديم المساعدة للمناطق التي تفتقر إلى الوعي المحلي. وإذا ما عملنا معاً سوف نتمكن من حماية الآثار وخدمة احتياجات السياحة في نفس الوقت.