لم أكن أتخيل يوماً أن أرى وزيراً واقفاً فى طابور طويل ينتظر دوره، فالوزير فى بلادنا قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، كان فوق مصاف البشر، ومنزهاً عن الطوابير والانتظار، فكانت تخلا له الطرق، وتعطل له مصالح الملايين ليمر فى طرق خالية تماماً، إلا من سيارته وسيارات أفراد أمنه، لكن جاءت الثورة لترسى أولى قواعدها، وهى أن الغفير والوزير فى الطابور سواء، كما ظهر فى استفتاء التعديلات الدستورية. لم أكن أتخيل أنه سيأتى اليوم الذى يحرص فيه المواطن المصرى على الذهاب لمقر انتخابى ليدلى بصوته، سواء بالرفض أو الإيجاب، لأنه اعتاد على الانتخابات والاستفتاءات التى أعدت فيها النتيجة وكتبت واعتمدت مسبقاً، قبل عملية التصويت الصورية المزيفة التى كان يجريها النظام المخلوع وفاسدوه وبلطجيته، والتى كان يفوز فيها الحزب الوطنى، غير المأسوف عليه، بأغلبية كاسحة. لم أكن أتخيل أن يحرص 18 مليون مصرى على الذهاب للإدلاء بأصواتهم فى استفتاء شعبى على تعديلات دستورية، ويحرصون على التحلى بالنظام والالتزام بالقوانين، بل ويساهمون فى إدارة عملية التصويت بالتنظيم والإرشاد وتسهيل عملية الدخول والخروج للجان، وأن تتخطى نسبة الحضور ال40%، لأن المواطن المصرى شعر أخيراً أن لصوته قيمة، وأنه قد يغير مستقبل بلاده بهذا الصوت. لم أكن أتخيل أن كبار السن الذين تخطوا ال60 وال70 من النساء قبل الرجال سيحرصون على الإدلاء بأصواتهم بجوار الشباب ذوى ال18 وال20 سنة، بل لم أكن أتخيل أن شاباً معاقاً يجلس على كرسيه، ولديه صعوبة فى النطق سيحرص على الذهاب للاستفتاء هو الآخر، ليثبت أن هذا الوطن يستحق منا الكثير والكثير. لم أكن أتخيل أن يأتى اليوم الذى يجرى فيه استفتاء شعبى وتراقبه هيئات ومنظمات المجتمع المدنى، الذين كانوا فى السابق يمنعون من دخول اللجان أساساً، وتتم مضايقتهم بشتى الأنواع، ثم يقولون: "بغض النظر عن بعض التجاوزات التى تعكس ضعف الإمكانيات والأخطاء الإدارية ومحاولة البعض لمنح عملية التصويت بعداً دينياً، إلا أن ذلك لا يقلل أبداً بأى حال من الأحوال من نزاهة ومصداقية عملية الاستفتاء برمتها". لم أكن أتخيل أن أصوت لنفسى فى الاستفتاء ب"لا" ثم لا أجد فى نفسى أى غضاضة عندما تعلن النتيجة ب"نعم" بنسبة 77.2%، إنه حقاً عرس الديمقراطية فى مصر.. فمرحباً بكل من قال "نعم" وكل من قال "لا"، حتى ولو كان بسبب المادة الثانية من الدستور، ولا لكل من قال إحداهما تحت أى تأثير لأى جهة، أياً كانت.. ولكننى أيضاً.. لم أكن أتخيل عندما ذهبت للإدلاء بصوتى على التعديلات الدستورية، أننى أُصوت ل"الدين" أو ضده، لم أكن أعلم أننى ذاهب لأتصدى ل"غزوة الصناديق"، كما سماها الداعية محمد حسين يعقوب، لأكون من أعداء الله والسلفيين والإسلاميين والإخوان.. فالاعتقاد الذى قادنى وتملكنى تماماً وأنا أدلى بصوتى وممسكاً قلمى لأؤشر داخل الدائرة السوداء ب"لا" هو إعداد دستور جديد لمصر، بعيداً عن مجلس شعب جل من يفوز بعضويته إما صاحب مال يرشى الناخبين بما أحله الله وما حرمه أيضاً مثل البانجو والحشيش والمنشطات الجنسية، وإما من أصحاب القبليات والعصبيات، لتأتى لنا الانتخابات بأعضاء لا علاقة لهم ب"تشريع القوانين" الهدف الأساسى للمجلس. لم أكن أتخيل أن لفظة "غزوة" لم تنتهِ بعد، وهى تطلق على المعارك التى خرج فيها النبى _ صلى الله عليه وسلم _ بنفسه، وغيرها يطلق عيها "واقعة" أو "معركة"، ولم أكن أتخيل أن السلفيين سيغيرون موقفهم من الانتخابات والاستفتاءات والمشاركة فيها خلال ليلة وضحاها، ولم أكن أتخيل أن الذين كانوا يتفرجون على الشهداء ينتظرون الفرصة للانقضاض على الثورة باسم "الدين"، ولست أدرى هل الاستفتاء كان على التعديلات الدستورية، أم على "الدين"؟ وهل واجب الدعاة هو "وادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"، أم إيقاع الفتنة بين المصريين، ودعوتهم للهجرة من بلدهم، وتوزيع تأشيرات سفر، أقصد "تأشيرات تهجير" إلى أمريكا وكندا؟ لم أكن أتخيل أن لغة الداعية محمد حسين يعقوب مازالت تحتوى على مفردات مثل "مش هى دى الديمقراطية بتاعتكوا".. "لكن ديمقراطيتكوا بتقول الشعب بيقول إيه الشعب قال عايز دين، خلاص عايز دين اديلوا دين، وإحنا بتوع الدين".. وربما كنتُ فى حاجة لتأشيرة من تأشيرات شيخنا الجليل، الذى أحبه وأحترمه وأقدره، قبل الخامس والعشرين من يناير، ولست وحدى، بل معظم المصريين كذلك، لكن للأسف جاءت مبادرة مولانا متأخرة جداً. لكننى تيقنت بعد الثورة أن معظم المصريين، إن لم يكن جميعهم، فى هوى "الوطن" قيس، وإن لم يُعجب السلفيون "قيس"، لأنه جاهلى يعبد الأصنام، أقول لهم الكل فى حب مصر "صوفىٌ".