حركات الإسلام السياسى لم تُعن بأمور الناس الحياتية ولم تشاركهم معارك مواجهة الغلاء وتفاوت المستوى بين الطبقات وردتنى دعوة كريمة من مركز دراسات الشرق الأوسط بالعاصمة الأردنية عمان للمشاركة فى ورشة تحضيرية لمؤتمر سيعقد فى أواخر العام هناك حول «حركات الإسلام السياسى فى الوطن العربى.. الواقع والتحديات والآفاق», والحقيقة قد أعجبتنى الفكرة، وأعجبنى أكثر أن يهتم مركز معنىّ بالدراسات المستقبلية بالإعداد والتحضير لمؤتمر كبير قبل عام من انعقاده، ويندب للجنته التحضيرية خبراء من أمصار مختلفة، وأيضا من مدارس فكرية مختلفة، وهو يحقق من طرق عدة أهدافا مجتمعة تحتاج إليها هذه الحركات بشكل رئيس، ويحقق الثقة والمصداقية فى نخبتها المثقفة لدى كل المعنيين بمتابعة أمورها، فهو يرمى إلى توفير فرصة الحوار الموسع والعام بين حركات الإسلام السياسى وقياداتها والباحثين والخبراء العرب، والنخب السياسية الحاكمة. كما يبذل جهدا مميزا فى البحث الجاد عن مشروع عربى إسلامى نهضوى شامل، يجسر العلاقة بين هذه الحركات والحكومات العربية من جهة، وبينها وبين القوى السياسية الأخرى من جهة أخرى. ويؤدى هذا المؤتمر من خلفيته إلى دعم التوجه السياسى المستنير فى صفوف حركات الإسلام السياسى، وتشجيعه على تحقيق طموحاته، وتطوير ذاته، ليكون عاملا إيجابيا فى بناء مشروع الأمة، وتحقيق أهدافها. كما أنه يعمّق خدمة البحث العلمى فى مجال حركات الإسلام السياسى فى عمق المسائل المطروحة، وبعيدا عن العموميات، سواء فيما يتعلق بالمهتمين بالتعامل مع حركات الإسلام السياسى، أو فيما يتعلق بقيادات حركات الإسلام السياسى، للاستفادة منها فى تقويم المسيرة، وتسديدها بما يحقق أهداف الأمة العامة. أكثر نقطة تعرضت للبحث ودار حولها النقاش، هو ما يتعلق بالعنوان وتسميته «حركات الإسلام السياسى»، والتى اعتبرها البعض غير مسلم بها وهى مثيرة للنقاش، لا يقبلها أغلب من تُطلق عليهم الحركات والأحزاب الإسلامية، فضلا عن الهواجس حول الجهات التى أرادت شيوع المصطلح لتوحى بوجود إسلام غير سياسى، أو وجود أنواع متعددة من الإسلام، كأن نقول «الإسلام الصوفى» أو «الإسلام الدعوى» أو «الإسلام الاجتماعى» أو «الإسلام الجهادى» أو غير ذلك مما يمكن أن يقال بقدر ما يوجد من تيارات إسلامية تختلف فيما بينها من حيث الاهتمام والوظائف والأولويات. لكننى أعتقد أن هذه الهواجس مبالغ فيها بدرجة أو بأخرى، لأن المؤتمر المزمع عقده فى نوفمبر المقبل معنىّ ببحث أوضاع وأحوال الحركات التى تُعنى بالشأن العام، أو ذات النظرة الشمولية للإسلام دينا ودنيا، لذلك تكون الدلالة واضحة لها بالمصطلح. وقد كانت الورقة البحثية واضحة الدلالة بتحديدها أنها «هى الحركات الإسلامية التى تعمل على الوصول إلى الحكم، أو التأثير الفاعل فى القرار السياسى بالمشاركة السياسية، أو عبر صناديق الاقتراع وبرامج التغيير والإصلاح الاجتماعى والسياسى، أو بالمقاومة المسلحة ضد الاحتلال أو الاستعمار خلال الفترة 1990-2010، وإطارها الجغرافى هو الوطن العربى». وهو تعبير دقيق إلى حد كبير. وقد كانت الأحداث التونسية حاضرة فى ذهنية الباحثين، وهى تُحضّر لمؤتمر كبير يعنى بهموم الحركة الإسلامية وتحدياتها، وكان التساؤل بارزا وكبيرا: ما مدى تأثير الانتفاضة التونسية على مستقبل الحركات الإسلامية؟ وما تأثيراتها على ذهنية الإسلاميين؟ وهل هذه الانتفاضة تمثل نموذجا كاملا يمكن نقله لمختلف دول العالم العربى؟ وما العوامل القوية التى دفعت لها؟ وما مدى قدرتها على تحقيق أهدافها؟ فأهم ما يميز الانتفاضة التونسية أنها أبطلت الانطباع الذى كان سائدا لدى الكثير فى العالم العربى باستحالة القيام بثورات سلمية فى الوطن العربى كتلك التى أطاحت بعدد من الأنظمة فى أوروبا الشرقية، فقد أصبح الحكام العرب اليوم فى حالة خوف وتوجس كبير من ردة فعل الجماهير تجاه الأوضاع المزرية التى يلاقونها فى معيشتهم وكرامتهم، وباتت الجماهير أكثر جرأة على المطالبة بحقوقها بالوسائل السلمية، كما مثّلت هذه الانتفاضة ضربة موجعة للنخب التى يئست من التغيير، فاتجه بعضها إلى الانطواء والانزواء، وبعضها للتشدد والتوتر، وبعضها للخضوع والاندماج، كما أعطت دفعا قويا للنخب التى بقيت ثابتة إلى ضرورة المقاومة السلمية للأنظمة العربية الفاسدة. وقد دارت المناقشات حول تقسيم تلك الحركات المعنية بالبحث إلى ثلاثة أصناف: أولها الحركات التى شاركت فى العملية السياسية ووصلت لمرحلة المشاركة فى الحكم بصورة أو أخرى. أما الثانية فهى الحركات التى تشارك فى العملية السياسية، ولم تصل لمرحلة المشاركة فى الحكم، وأخيرا الحركات التى يغلب عليها طابع مقاومة الاحتلال، وتشارك فى العملية السياسية. لا يمكن أن نغفل أن حركات الإسلام السياسى صارت رقما صعبا فى مجتمعاتها، وحققت نقلات نوعية، وأصبحت تشكل القوة الشعبية الأولى فى كثير من البلدان العربية، وانخرطت فى تجارب برلمانية، واجتهد بعضها فى تقديم تجارب حزبية بمحاولة تقديم مشروعات تأسيس أحزاب، وخاضت تجربة نقابية طويلة، لكن أهم ما يمكن أن يُعنى به مثل هذا المؤتمر فى حدوده ونطاقه هو سبر أغوار فشل تجارب مثل هذه الحركات فى الحكم! فقد بقى النموذج السودانى صارخا فى الدلالة على نقد التجربة، حتى لم يبق أحد من داخل النموذج على الدفاع عنها، وتشكل أزمات العلاقة بين طرفى السلطة فى فلسطين هاجسا مزيدا فى إطار المخاوف التى تُثار فى هذا الصدد. لا شك أن تحديات كثيرة تواجه حركات الإسلام السياسى، منها ما يعد داخليا، وضرورة تحرير كثير من المسائل العالقة فى ذهنية تلك الحركات، والتى تتعلق فى كيفية إدارة ملفات مختلفة حتى تحقق الإقناع المناسب، أو الثقة الكافية لتواصلها مع مجتمعاتها فى نظرتهم للتعددية وقبول الآخر وآليات العمل السياسى، لكن أكثر التحديات التى تواجهها، وتحتاج هى إلى إفراد سبل لمواجهتها فيما لو بقيت راغبة فى الاستمرار وتجاوزها، فهى معنية بالتأكيد بتحديد أطر لعلاقاتها بأنظمة الحكم، بدلا من ترك العلاقة فى إطار الغموض الذى يمكن لأقطاب الاستنزاف فى الطرفين من استمرار التوتر الناشب بينهما. كما أن العلاقة مع الغرب تحتاج لنظرة ورؤية موضوعية وواقعية فى آن واحد، ومما يسهل من صياغة هذه الرؤية الجزم بأن الغرب ليس واحدا فى خندق العداء للإسلام، أو يمكن التواصل مع جوانب منه ضمن قواسم إنسانية عامة، والحفاظ على الهوية، والقدرة على الإحاطة بمشروعات استعمارية معاصرة. أهم ما يمكن أن يوجّه لحركات الإسلام السياسى أنها لم تعنَ بأمور الناس الحياتية، ولم تشاركهم معارك مواجهة الغلاء، وارتفاع الأسعار، وتفاوت المستوى بين الطبقات، فقد كانت هذه الرؤية هى التى ألهمت الشعب التونسى انتفاضته. إن تنظير مشروع نهضوى لا يجب أن يكون مقصورا على مجال التنظير الفلسفى فقط، بقدر ما يحتاج لاجتهادات حركية تتوفر لديها القدرة على تحقيق التراكم المطلوب، للإفادة التطبيقية على أرض الواقع.