"الخلق فى الصحرا رايحة فى داهية" بلهجته البدوية قالها، وهو بادى الأسى أثناء تواجده بسوق الغنم الذى يتوافد عليه بدو مطروح من أعماق الصحراء، فجر كل يوم، لبيع الأغنام والطيور والبيض وشراء الأعلاف، ثم تتشارك كل مجموعة منهم لاستئجار سيارة للعودة إلى الصحراء مرة أخرى. سألت أحد الشباب عنه، فأخبرنى بأنه الحاج جاد الله مسعود وعمره 82 سنة، وهو من قدامى التجار ومربى الأغنام، وقدمنى إليه. رحب الرجل بى، وقبل أن أسأله عما يقصد بعبارته، بادرنى "يا وليدى الفقر زاد على الناس، بص فى وجوههم، تلاقيه منقوش عليها والحكومة لا تدرى بيهم". ولظنه أننى أنتمى للحكومة وجه لى الحديث مرة أخرى: "قول للمسئولين والحكومة إحنا قاسينا كتير والشىء اللى ماتقدر عليه الخلق هو جوع أولادها، وما طالبين غير الطحين والرز". قلت له إن الغلاء طال الجميع فى مصر، وليس أهل الصحراء وحدهم، فقال بحزن "اللى يجوع فى المدينة يلاقى اللى يشحت منه، أما اللى يجوع فى الصحرا يموت، فلا شغل ولا قروش، والصحراء صارت خاربة لا زرع ولا عشب ولا مراعى والناس بتبيع غنمها من الفقر مش قادرة تشترى العلف، بص حواليك تلاقى الغنم كتير مالها حد ورخيصة وما فى حد يشتريها علشان غلو العلف، من عامين كنا نشترى طن العلف ب 1200 جنيه، مين يقدر يشتريه الآن ب 2500 جنيه، ورخص الغنم لا يعوضنا". الحاج جاد الله اختزل واقع أهل الصحراء وقسوة حياتهم بالقدر الذى يعيشونه فعلاً، على الرغم من أن ما يفصلهم عن الرفاهية المفرطة فى قرى وفنادق الساحل الشمالى هى بضعة كيلو مترات فقط، حيث يتوزع بدو الصحراء والتى تقدر أعدادهم بحولى 75 ألفاً على القرى والنجوع الواقعة فى عمق الصحراء - جنوب الطريق الدولى الساحلى من الإسكندرية حتى حدود ليبيا غرباً. نصحنى مرافقى فى طريقنا إلى أحد النجوع فى عمق الصحراء بالحذر فى التعامل مع الناس وعدم ذكر اسم أحدهم فى الصحف أو الإشارة إلى حالته المالية، فهم رغم الفقر الشديد الذى يعانون منه، يحاولون دائماً إظهار عكس ذلك، لأن اعتزازهم بأنفسهم وحرصهم على كرامتهم أهم من الفقر والجوع، وترى الواحد منهم يحرص على ارتداء الزى البدوى المميز وغالى الثمن "الثوب الأبيض الزاهى والصدرية والسروال الصوف والدشداشة". كل شىء حولنا أصفر بلون الصحراء حتى وجوه الأطفال.. الفقر والعوز مرسوم على وجوههم البريئة.. أبار المياه لم تملأها الأمطار هذا العام، والمواطن يرى العذاب فى إحضار عربة مياه، الأغنام ترعى فى أرض جدباء. سألت الراعى "الغنم دى بتاعتك؟"، ابتسم وهو يقول "ربنا يرزقنى ويعطينى ولو ربعها أنا بشتغل راعى بالأجر" فأسأله متعجباً "هى الغنم بترعى إيه، هنا لا يوجد عشب ؟!"، رد "الرعى ضرورى للأغنام حتى لو ما فى عشب، معظم شهور السنة عايشة على العلف، إحنا بنرعى الغنم علشان تتمشى لو ظلت بالحظائر تتعب وينقص وزنها مهما أكلت". قلت له "لكن الأغنام عددها كبير وأكيد تحتاج علفاً كثيراً"، فضحك وقال "وين الغنم الكثيرة دول عددهم حوالى 200 رأس بس .. يا أستاذ من سنتين كنت أرعى أكثر من 600 رأس غنم .. العلف لما غلا والمطر قل، أصحاب الغنم باعوها، ولولا إن البدو ما يقدروا يعيشوا من غير سعى ما كان لقيت فى الصحرا كلها 200راس زى دول عند أحد". وقفنا أكثر من ساعة فى انتظار سيارة على الطريق الحربى القديم جنوب مطروح ب 25 كم، حتى توقفت سيارة ربع نقل، يقودها زايد صالح السرحانى الذى يعيش بين الصحراء والمدينة ويعمل فى تجارة الأغنام، وكان عائداً إلى مرسى مطروح. أكد زايد أن أوضاع البدو فعلاً صعبة، والناس تعانى كل يوم أكثر، وحكى عن شخص كان يتعامل معه، قابله اليوم وتأثر كثيراً لما وصل إليه حاله بعد أن كان يمتلك قطيعاً من الأغنام، "الشايب مافيه طحين فى بيته من يومين، لأن شكارة الطحين وصل سعرها إلى 130جنيه وعويله بياكلوا رز فى الفطار والغدا والعشاء والرز اللى عنده ما يكفيه يومين أخرى"، هكذا لخص ما وصل إليه الحال . اكتشفت أن معاناة أهل الصحراء ليست حقول الألغام وحدها التى تحاصر مراعيهم وآبارهم فقط، وإنما الفقر والإهمال والنسيان من الحكومة فى تعاملها، وهذا ما أكدته أرقام وزارة التضامن الاجتماعى، فآلاف الأسر فى مطروح، تعيش على المساعدات والمنح، والأسر المستفيدة من الضمان الاجتماعى بلغ عددها 8675 أسرة، يتقاضون معاشاً شهرياً يقدر بنحو 679 ألف جنيه بمتوسط 80 جنيهاً للأسرة، و632 أسرة تلقت العام الماضى مساعدات شهرية بحوالى 52 ألف جنيه متوسط 83 للأسرة، ويستفيد من معاش الطفل 249 طفلاً بحوالى 14 ألف جنيه شهرياً بمتوسط 56 جنيهاً للطفل، ومنح دراسية ل 1534 طالباً بواقع124 ألف جنيه بواقع 80 جنيهاً للطالب، ومعاش أسر المجندين بلغ نحو 19 ألف جنيه شهرياً، تستفيد منها نحو 500 أسرة، بواقع 40 جنيهاً للأسرة، فيما بلغ حجم مساعدات الطوارئ 8492 جنيهاً يستفيد بها 41 أسرة من أسر مصابى الألغام، وهذه الأرقام تكشف حجم الفقر الذى يضرب سكان الصحراء وهزلية ما تقدمه الدولة لهم من مساعدة. وبلغ عدد ضحايا التوطين والتهجير بسبب الجفاف والتصحر نحو 25 ألف فرد، أى ربع سكان الصحراء تقريباً، واقتصر دور الدولة على ما قدمته لهم وزارة التضامن الاجتماعى، وهو 25 طن سكر، و88 طن دقيق، و17 طن أرز، بحيث كان نصيب الفرد كيلو سكر و3.5 كيلو دقيق وأقل من كيلو أرز، وتم توزيع هذه المساعدات العينية مرة واحدة فقط خلال العام الماضى. * لمعلوماتك: ◄ 300 ألف نسمة عدد سكان محافظة مطروح. ◄75 ألف نسمة عدد البدو فى القرى والنجوع بعيداً عن المدن فى الصحراء، منهم 25 ألف نسمة يعانون التهجير بسبب الجفاف والتصحر. ◄ 12 مليار جنيه حجم الاستثمارات السياحية والترفيهية فى مطروح خلال السنوات الماضية. ◄200 مليون جنيه جملة المبالغ الموجودة بصندوق الخدمة بمحافظة مطروح، منهم 20 مليون جنيه مخصصة للحالات الإنسانية.