إذا كان ارتفاع سعر برميل البترول، الذى حقق مؤخراً رقماً قياسياً جديداً بعد أن تعدى حاجز ال135 دولاراً، قد مثل كارثة للصيادين الفرنسيين، فهو فى المقابل حقق السعادة لصيادى اللؤلؤ فى دول الخليج، أولى مصدرى النفط والغاز على مستوى العالم. وفقاً لدراسة أجراها مركز ماكنزى، من المتوقع أن تصل إيرادات دول مجلس التعاون الخليجى الست من النفط، مع متوسط 100 دولار لسعر البرميل، إلى 1100 مليار دولار فى 2008 و8800 مليار متراكمة من الآن وحتى 2020. يذكر أن إيرادات دول مجلس التعاون من النفط قد سجلت 300 مليار دولار فى 2007 (مع صافى دخل القومى 800 مليار). أما الأمر الجديد، والذى يختفى وراء دخول الأموال الخليجية فى رءوس أموال المؤسسات الأجنبية، فهو تزايد استثمار "البترو دولار" داخل دول الخليج نفسها. وفقاً لدراسة ماكنزى، سوف يتم استثمار 3200 مليار دولار داخل دول الخليج بحلول عام 2020، بواقع 230 مليار دولار سنوياً. يؤكد دنيس بوشار، أحد الخبراء فى المعهد الفرنسى للدراسات الدولية: "على عكس السياسات التى كانت تنتهجها دول الخليج فى السبعينيات، نلاحظ اليوم أنها تقوم بتطبيق سياسات اقتصادية أفضل تخطيطاً وأفضل تطبيقاً، ذات أهداف استراتيجية حقيقية". تهدف هذه السياسات إلى تنويع الاقتصاد، تحسباً لتلك اللحظة التى ستنضب فيها آبار البترول. فى السبعينيات، كانت المملكة العربية السعودية تستثمر أموالها فى مجالى البتروكيماويات والزراعة. أما اليوم فهى تراهن على صناعات الحديد والألومنيوم، وهى نفس الاستراتيجية المعمول بها فى البحرين وأبو ظبى. حيث يتم حالياً بناء أكبر مصنع ألومنيوم على مستوى العالم وكذلك مدن صناعية متخصصة مثل البوليميرات ومدينة المعادن ومدينة الكيماويات. من جانبها، اختارت دبى منذ عام 2000 وضع استثماراتها فى مجال الخدمات: النقل والسياحة والتعليم والبحث. قامت مؤخراً كل من عمان وقطر بانتهاج سياسة دبى، ومحققين بذلك رواجاً فى مجال البناء. تم تخصيص حجم استثمارات يصل إلى 3630 مليار دولار فى دول الشرق الأوسط الثلاث عشرة فى مجالى السياحة والنقل الجوى خلال الاثنى عشر عاماً المقبلة: 900 فندق و750 ألف غرفة و875 طائرة ضخمة. التسويق الوهمى إلا أن هذه الأرقام أو ناطحات السحاب الضخمة لا تستطيع إخفاء بعض الحقائق المؤكدة. ومنها أن هذا الازدهار يعود أساساً إلى التكلفة الزهيدة للأيدى العاملة الآسيوية، التى تخضع لأقل ظروف عمل على مستوى العالم. على الرغم من ذلك، فإن ارتفاع الأسعار قد أدى إلى حدوث "سلام اجتماعى".. نظراً إلى أنه تحت ضغط الإضرابات، ارتفعت الأجور. حيث إنه إذا كان إنشاء المصانع والفنادق لا يحتاج سوى أيدى عاملة ضعيفة الكفاءة، فإن تشغيلها يتطلب كفاءات لا يتم جذبها إلا عن طريق الأجور المرتفعة. إن انجذاب المستثمرين والمستشارين ورجال البنوك والسائحين الأجانب لهذه "الجنة" يصدم القواعد المحلية الخاصة "بالحكم"، والتى تقوم على تقسيم السلطة بين الأسرة الحاكمة والعائلات الوارثة لتقاليد السوق المحلية. تشير فتيحة دازى هانى، صاحبة كتاب "الملكيات والمجتمعات السعودية" 2006، إلى أن "العرب يعشقون الاستهلاك على الطريقة الغربية. ولكن بمجرد عودتهم إلى ديارهم، يعود كل شىء ليتمركز حول روح العشيرة"، مؤكدة على أن الانغلاق على الذات قد يؤدى إلى التطبيق السىء لسياسة التحديث. أخيراً فإن الخطر السياسى فى هذه المنطقة ليس بالقليل. من المؤكد أن وضع المراكز المالية، خاصة دبى، كمقر لغسيل أموال دول الشرق الأوسط وآسيا وروسيا، يحميها من أية هجمات، فى حين يعلن الأمراء اعتراضهم بمنتهى الحرص تجاه أى تصرف ضد إيران. لكن هجمة واحدة سوف تضر بصورة هذه الجنة التى يتم الترويج لها. إن غياب التنسيق بين هذه "العائلات الدول" المتنافسة يؤدى إلى حدوث تضاربات مالية، فهل من المعقول إنشاء ثلاثة مطارات دولية ضخمة لا يفصل بين الواحد والآخر سوى عدة مئات من الكيلومترات، وأحد عشر مصنعاً للألومنيوم، ومئات الآلاف من حجرات الفنادق ومنتجعات الرفاهية داخل منطقة ذات جذب مناخى واجتماعى وثقافى ضعيف؟، هل يمكن اعتبار هذا الرهان، كما يقول الصحفى الأمريكى مايك ديفيس، مجرد وهم تسويقى ضخم؟ إن إصرار الأوساط المالية الغربية على تكذيب هذا الزعم بواسطة الأرقام العجيبة التى تسوقها تكفى لجعله افتراضاً أقرب إلى المعقول. إلا أن إيرادات النفط تظل المصدر الرئيسى للدخل القومى. يقول نيكولا سركيس، مدير مجلة النفط والغاز العربى: "يمكن للمال تغيير العديد من الأشياء، لكن ليس من بينها الجغرافيا. لا تمتلك هذه الدول على أراضيها (باستثناء المملكة العربية السعودية) مصادر تسمح بتحقيق نمو متوازن مثل عدد سكان ضخم أو أراض صالحة للزراعة أو معادن أو خبرة فى مجال الصناعة". يؤكد سركيس: فى المقابل، يمكننا أن نجد هذه المصادر داخل الشرق الأوسط فى مصر وسوريا والعراق. إن سياسة التنمية الحقيقية تتحقق على هذا المستوى، تماما كما فعلت أوروبا. إلا أن هذه الأخيرة عرفت فى البداية كيف تنهى الصراعات السياسية التى طالما زعزعت استقرارها.