أيام، التلفاز ملّ منى، المحطات تتقاذفنى واحدةٌ تلو الأخرى.. وأنا ما زلت لا أفهم شيئاً. فالشاشات لا ترى حياة الأزقة وهموم الناس وعيون الخوف والخبز اليومي.. زاويتها "القوّة"، ومصدرها "القرار".. تدعمهم بالوقت والتضخيم. أريد أن أفهم! لا يهمنى فقط أن أعرف كم أحرج خطاب فُلان المعارضة. وكيف ردّ عليه مكتب الإعلامى فى 14 آذار وحكايات "العاجل" البوليسية! حسناً.. سأنزل إلى الشارع بنفسي. الظاهر أن على كل إنسان أن يكون إعلاميا لنفسه فى لبنان. ورقة، قلم وكاميرا والى شوارع بيروت بعد ليل المعارك الصاخبة. طريق الرينغ. مسيرة تضامناً مع حرية الكلمة فى لبنان ورفضاً لإقفال تلفزيون وجريدة "المستقبل" من قبل المعارضة. تُشارك مع أنك فى الحقيقة تكره الساعة التى أعطيت فيها تراخيص للبث. "المستقبل" كمعظم الإعلام المحلى لا يقدم معلومات وآراء بقدر ما يطلق حقداً ويقطر تحريضاً. لكن المسألة تتخطى العتب والتحفظ على مهنية محطة إعلامية ليطال حرية التعبير فى لبنان. ربما تضحك بعد قراءة "حرية التعبير فى لبنان" وتقول فى قلبك ما هذه الأكذوبة التى يتغنون بها فى لبنان.. عن أى صوت حر يتكلمون حين يعلو صوت الرصاص؟ صحيح.. لكننى شاركت. إلى الحمرا التى افتقدتها كثيراً هذه الأيام. إلى شارعى الذى يعجّ دائماً بالحياة وسط القهاوى وبائع الجرائد والزمامير التى تصدعك وتدفعك إلى الشتائم. لا زمور ولا جريدة ولا قهوة ولا صديق.. إنه شارع يحتضر، فقد خنقته جحافل الجنود ولفت عنقه الأسلاك الشائكة وحاصره إعلام "المنتصرين". لقد فُرض على شارع التنوّع لون واحد، هو الأقوى.. لكنه باهت. ساقية الجنزير التى شهدت معارك طاحنة خلال اليومين الماضيين، حركة الناس شبه معدومة فيها. فقط الفران والخضرجى والدكنجى فتحوا أبوابهم. محلاتهم على صورة الشوارع.. شبه خالية. فتخيّل بنفسك حجم الإقبال على المواد الغذائية فى الصباح. أمشي، أصور حزن الشوارع وأصغى خلسة إلى غضب الناس. بعضهم يكتفى بالعتب على "رجل المقاومة" والآخر يفجّر حقده الدفين بإطلاق الشتائم العشوائية. نصل إلى حاجز جيش. "ممنوع تصوير الوجوه". ابتسم وأقول "أصلا عدسة الكاميرا ما متيحة، ما بتصور زوم".. علّنى أكسب الوقت وألتقط المزيد. حسناً، حصلت على صوري، اشكر "الوطن" وأتابع جولتى الميدانية. لكن البسمة تكاد تختفى وتتحوّل إلى خوف يعصر معدتك ويغيّر، رغماً عنك، لون وجهك! حاجز لمسلحى المعارضة. فهمت مباشرة أنه لا تصوير. لكننى لم أستطع أن أتكلم بلطف.. من هو كى يوقفنى ويسألنى عن هويتى ويكشف عن صوري؟ يتأكد أننى لم ألتقط صوراً من المكان. أجيبه باقتضاب وأمشي. أعرف أنه لا مكان للعنتريات أمام قوة السلاح. اقتضابى ربما أزعجه هو الأزعر الذى لا يقهر. يتبعنى ويصرخ "إن لم تخرجى من المنطقة، سأحطم الكاميرا على رأسك.. أنا تذكرتك وأعرف أنك كنت تسكنين فى الطيونة". وضعت الكاميرا فى الحقيبة وخرجت من الساقية بصمت. لكننى كنت أشتعل خوفاً وغضباً. الخوف لأنه يعرف بيتى السابق.. لمّح إلى ذلك ليُفهمنى أنه يعرف هويتى الطائفية التى لا تتوافق مع التحالفات القائمة! الغضب لأننى شعرت بالذل لحظة ضياع الوطن فى زواريب الطوائف. كورنيش المزرعة، أضيفت على قائمة خطوط التماس القديمة. تحتل الصدارة هذه الأيام بعد هيجان المعارك بين بربور ومنطقة جامع عبد الناصر. شارع لا يختلف كثيراً عن باقى الشوارع. باهت ومحبط. يكسّر صمته ضجيج العتاد، من قبل الجيش والملثمين على حد سواء. 7 قتلى فى الطريق الجديدة خلال جنازة لأحد مناصرى تيار المستقبل. يُخشى من ردود أفعال باقى المناطق. يجب أن أعود فوراً إلى البيت، خاصة بعد نصائح جنود الجيش المتكررة بالرحيل من المكان. المنزل لا يبعد 10 دقائق مشياً على الأقدام. توقفنى سيارة أجرة وينصحنى السائق بالصعود وتُصرُّ على امرأة عجوز قائلةً "مش لح نتركك يا ابنتي، طلعي!". أرضخ، لكننى أعلم أنها ستأخذ مزيداً من الوقت وسنضطر إلى دخول فى أخطر الأزقة. إطارات تحترق، قربها مسلّح يتكلم من خلف قناعه " الطريق مقفلة!". الست خائفة، فابنتها فى المستشفى تنتظر طفلاً. يُطمئنها السائق مؤكداً أنه يعرف طريقاً آخر. ما لبثنا أن قطعنا شوطاً حتى اصطدمنا بعائق آخر. هذه المرة مستوعبات نفايات مرمية فى وسط الطريق. الشاب لم يكن ملثماً، ما خفّف من أجواء الخوف. لكنه كان يضع شريطاً أخضر على رأسه يعكس جيداً انتماءه الحزبي. السائق يُقدم على مشارعته، مقدماً له كافة الحجج "لا يوجد طريق أخرى"، "لقد وصلنا" وسوى ذلك. الظاهر أنه لا يسمعه كثيراً، علّق على كلمة "الطريق مسكرة يا عم". تحاول الجدّة أن تلعب على عواطفه قائلة إن ابنتها فى المستشفى "الله يرضى عليك". يجيبها بلطف "يا ريت، بس ما فيى أعمل شي". بين المنطق والعاطفة، استمر الجدل إلى أن جاء الأمر السحرى بفتح الطريق للنائب "فُلان". فجأة، تغيّرت طبيعة الشاب وأزاح المستوعبات بهمّة. ونسى السائق الذى استغل هذه المناسبة "ليهرب بريشه" ويبحث عن رزقه وسط هذه المحنة. فرأسمال عمله قليل من "التنرفُز" وبضعة شتائم وحرق أعصاب. قبل أن أنزل من السيارة، يقول لى بمونَة الأب "الوطن لم يعد يستوعب أبناءه، ابحثى يا ابنتى عن فيزا واهربي!". * صحفية لبنانية