وبخلاف مصر فلا طعم له ولا مذاق ولا ملامح ولا هوية, يكاد أن يكون نسيًا منسيًا لولا رؤية هلاله والإعلان عن مقدمه. أما فى مصر فلرمضان شأن آخر وأى شأن, تستدعى كل المباهج الحسية والروحية, تتلألأ المآذن والشوارع بالفوانيس المبهجة والأنوار الصاخبة, ويعبق المكان بالروائح الزكية, وتصدح أصوات السماء بقرآن ما قبل المغرب يسرى كنغمات من نور تتلقفها الأرواح الشاردة فتستكين. أصوات محمد رفعت وعبد الصمد والمنشاوى والحصرى والبنا, التى تنطلق قبيل الإفطار فى سيمفونية بديعة من صنع الرحمن, وتنعم الأبصار بمشاهدة قرص الشمس الدامى يتناقص شيئًا فشيئًا مؤذنًا بالمغيب, ثم تناول الإفطار على صوت النقشبندى الذى يسمو بأرواحنا فى عوالم شتى من الراحة والدِعة بعيدًا عن عالمنا الملىء بالشرور . و قبيل الفجر والسحر يصدح الشيخ نصر الدين طوبار فى سكون الليل وهدأته وكأن سكان السماء يصافحون أهل الأرض، وكأننا نحلق بعيدًا بعيدًا فى ملكوت رب العالمين غير آبهين بالعودة وكأن نسمات الليل الحانية، ترطب أكبادنا المقروحة وأفئدتنا العليلة يسمو بأرواحنا إلى ما فوق الوجود، إنها لوحة عبقرية نطقت من فرط روعتها. لن توجد فى أى مكان على وجه البسيطة سوى مصر وكأن المولى قد اختصها بالتميز لأحب الشهور إليه، ومظاهر الإنسانية النائمة فينا تنطلق فى هذا الشهر الكريم وروح المحبة التى تظل الجميع والنِكات التى تنطلق من قلب الأزمات والأيادى الخيرة ودعوات الفقراء والسائلين والعيون اللامعة الملتهبة بالأمل, والأيادى الخشنة من كثرة العمل, والحياة المتعرقة تحت لظى الشمس الحارقة, وهمهمات الأفواه المسبحة والمكبرة والركع السجود فى المساجد والزوايا وسمار الليالى فى المقاهى والشوارع . إنها الحياة بكل معانيها مجسدة فى الشهر الكريم . فيا رب السماء والأرض, احفظ مصرنا عزيزة أبية وأدم علينا نعمة مذاق رمضان فى مصر. أعظم شهر فى أعظم بلد .