أترقب بشغف شديد رد فعل الحزب الوطنى، ودراويشه على سيل التوكيلات التى بدأت تنهمر على مكاتب التوثيق لتفويض الدكتور محمد البرادعى المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، لتأييد دعوته بتشكيل لجنة تأسيسية لوضع دستور عصرى لمصر يواكب التطورات العالمية وينقلها إلى عهد جديد من الديمقراطية والتداول السلمى للسلطة. بديهى أن كل المنتفعين من استمرار الواقع الحالى سيهبون لإجهاض هذه الخطوة، ويتفنون فى ابتكار شتى الوسائل لمحاصرتها، سواء بالطعن فى قانونية التوكيلات أو تشويه الفكرة والتشكيك فى نوايا أصحابها. المناخ السياسى الذى تعيشه مصر حاليا يساهم فى تصاعد الرغبة الوطنية الملحة فى التحرر من أغلال الحزب الوطنى، ولعل ما أثير من جدل حول إعلان الدكتور البرادعى عن رغبته فى خوض الانتخابات الرئاسية القادمة، وهو ما يعيد إلى الأذهان مساعى النخبة المصرية للتحرر من قيود المحتل البريطانى فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وما أحاطها من ملابسات وأحداث هامة.. بالتأكيد هناك من يغضب لتشبيه حزب يضم طائفة من المصريين بالمحتل الأجنبى.. لكن الذى يعود حوالى تسعة عقود بذاكرته للوراء سيجد تشابها كبيرا بين الأجواء المشحونة بالغضب التى تعيشها مصر حاليا وميلاد الحركة الوطنية عندما اشتدت قسوة الاحتلال البريطانى، الذى شدد من قبضته الأمنية وفرض العمل بالأحكام العرفية، والزج بالأحرار والوطنيين، إلى غياهب السجون والمعتقلات.. فى تلك اللحظة شق الظلام زعيم وطنى التفت حوله الأمة بأسرها فصار بين عشية وضحاها أملها فى التحرر والانتقال من مرحلة يعيش فيها المصرى مغتربا فى وطنه إلى مرحلة جديدة عناوينها الحرية والعدل والمساواة. ما أشبه الليلة بالبارحة، فهناك أوجه شبه عديدة بين اللحظة التاريخية التى ظهر فيها الزعيم سعد زغلول، وإعلان الدكتور البرادعى النزول إلى الحلبة السياسية ودعوته إلى وضع دستور جديد.. وكأن التاريخ يعيد نفسه. ولعل نقطة التلاقى بين سعد والبرادعى أن كلاهما ينطلق من قاعدة قانونية، فالأول أفرزته ظروف الاحتلال البريطانى الغاصب، بينما ظهر الثانى فى وقت تئن فيه مصر من وطأة الفساد والنهب. إن تردى أحوال المصريين فى مطلع القرن العشرين دفع فريقا من الوطنيين بزعامة سعد زغلول إلى حد الاجتماع بأحد مساجد القاهرة.. هناك ناقشوا فكرة اختيار وفد للسفر إلى فرنسا لعرض مطالب استقلال مصر فى مؤتمر فرساى، حينها رفض المعتمد البريطانى "ونجت" مطلبهم، بحجة أن سعد لا يمثل الشعب المصرى.. هنا انتفض الجميع فى حملة لجمع مليون توكيل، لتفويضه للتحدث باسم الأمة، وانطلق المتطوعون يجوبون القرى والنجوع لحشد المواطنين الذين آمنوا بالفكرة، غير عابئين بتهديد ووعيد الاحتلال وأذنابه.. عندها اضطرالمعتمد البريطانى الاستجابة لهم، وسمح لسعد ورفاقه بالسفر إلى باريس، وبعد عودتهم مباشرة، تم اعتقال سعد ونفيه خارج البلاد.. الظروف كانت مهيأة تماما فى تلك الأثناء لاندلاع ثورة 1919 التى تعد أول ثورة شعبية فى العالم العربى تتبنى شعارات الوحدة الوطنية، حيث تعانق خلالها الهلال مع الصليب فى لحظة تاريخية فارقة راسما أروع لوحة إنسانية فى حب مصر بكل ما تحمله الكلمة من معانى كان فيها المسيحى يهتف بجوار المسلم، وخرجت المرأة لأول مرة تتقدم صفوف الرجال غارسين أول بذور الحرية.. بعدها بسنوات قليلة، اعترف "المحتل" بحق مصر فى الاستقلال، وفى العام التالى استجاب الملك للضغط الشعبى وأقر دستور 1923.. من هنا ربما تكون فكرة التوكيلات هى المحاولة الأخيرة أمام المصريين لكسر احتكار الحزب الوطنى للحياة السياسية المصرية، وما ترتب عليها من تشويه لمكانة مصر المعهودة وتاريخها العريق.. اليوم تتجه كل الأنظار بحذر للخطوة الجريئة التى انطلقت شرارتها الأولى معلنة من أحد مكاتب الشهر العقارى فى مدينة الإسكندرية رفضها الاستسلام للواقع المرير، حيث أصرت إحدى الفتيات على تحرير توكيل باسمها للدكتور البرادعى وسط تردد موظفى المكتب المرتعشون. السؤال الذى يطرح نفسه الآن فى حالة نجاح تلك المعركة.. هل يستجيب النظام لإرادة الجماهير المتلهفة للتغيير، أم سيركب رأسه ويمضى فى عناده بصرف النظر عن الفاتورة الباهظة التى يمكن أن يدفعها الجميع؟!