لقد شعر روّاد الثقافة الغربية وتلامذتهم فى العالم الإسلامى بالهناءة لرؤيتهم حضارة الغرب وثقافته وأنظمته تستقرّ إلى حين فى العالم الإسلامى خلال القرن العشرين، دون منازعة ذات شأن من جهة المثقّفين المتديّنين. بل قد حظيت هذه الأنظمة بتبرير فريق واسع من هؤلاء المثقّفين، وحتى من بعض المتخصّصين فى الشريعة والدراسات الإسلامية. إلا أنّ هناءة هؤلاء لم تدم طويلاً، إذ فوجئوا بحركة فكرية فى العالم الإسلامى تشنّ حملة ارتدادية على الغزوة الحضارية الغربية، ولاسيما على الجانب التشريعى منها. فمنذ الخمسينيات من القرن الماضى، انطلقت حركة ناشطة ما زالت مستمرّة، بل متصاعدة الوتيرة حتى يومنا هذا، مستهدفة المنظومة الحضارية الغربية برمّتها، بما فى ذلك البنيان التشريعى لهذه الحضارة، والذى فُرِض على بلادنا بالقوّة والمكر منذ أوائل القرن العشرين. هذه هى حركة الإسلام السياسى، والتى نشأت فى العالم الإسلامى منذ سقوط الخلافة الإسلامية، وكان مشروعها الأساسى الذى مازال إلى الآن هو العمل لعودة الإسلام مرة أخرى إلى واقع الحياة، وذلك بإقامة الدولة الإسلامية، وسواء انحرفت بعض الحركات الإسلامية عن هذا الهدف، أو مازالت تتخبط فى وسائلها وأساليبها نحوه، إلا أنه يظل المشروع الرئيس لحركات الإسلام السياسى، رغم الخلاف القائم بينها فى الأحكام والأفكار. ولقد وصلنا الآن إلى أن حكاية انعدام المشروع السياسى لدى حملة الإسلام السياسى باتت من الأوهام. وبالتالى بات جديراً بمن يعنون أنفسهم بمواجهة الإسلام السياسى أن يركزوا عنايتهم على قراءة هذا المشروع، بدل تكرار الكلام الممل عن انعدام المشروع السياسى الإسلامى، إذ لم يعد هذا الكلام يحقق أى مكسب لقائليه، بل بات يظهرهم فى مظهر من يحاول حجب الشمس بغربال. بل الحقيقة التى يجب أن يواجهها هؤلاء أنهم هم المتهمون بإفلاسهم فى المشروع السياسى، إذ لا يملكون فى طرحهم أى خصوصية يتميزون بها عن أفكار وفدت إليهم من البيئة الأوروبية، سواء أكانت هذه الأفكار رأسمالية ليبرالية أم اشتراكية ماركسية أم اشتراكية معدّلة. لذلك، فإنه وإن كان من الطبيعى أن يواجه هذا المشروع معارضة من أطراف وتيارات شتى، فإنه من المؤكد أن كثيراً من هذه الاعتراضات أدت إلى اشتداد عوده وتعمق تجذره فى تربة العالم الإسلامى. وبالتالى فإن من يحارب هذا المشروع دون أن يكون لديه مشروع بديل عنه وبديل عن الواقع المزرى الذى تعيشه كل المجتمعات غير الغربية فى هذا العصر، يكون من حيث قصد أم لم يقصد، من المكرِّسين لهيمنة الحضارة التى تتقلب البشرية اليوم على أشواكها وتكتوى بلظاها. إن توجيه الاتهامات إلى الحركة الإسلامية بالعمالة لهو اتهام زائف، ولا أرى فيه إلا الجهل والحقد الدفين على حملة الإسلام السياسى، فقراءة الأحداث من زاوية واحدة لابد من أن تنتهى بأصحابها إلى الحكم الخطأ بل والجائر فى بعض الأحيان. إننى أؤكد أن اعتبار الإسلام السياسى كله متمثل فى حركة الإخوان المسلمين هو من الخطأ الشائع لدى كثير من الذين يتصدون للكتابة عن الإسلام السياسى، فحركات الإسلام السياسى فى العالم أكثر من أن نستطيع حصرها. ولكن بخصوص الصراع بين الإخوان وعبد الناصر، فالثابت تاريخياً أن الصراع بدأ بعد أن تخلى عبد الناصر عن وعوده للحركة فى تطبيق الشريعة وإشراك الجماعة فى الحكم، وكان هذا مقابل مساعدته للقيام بالانقلاب العسكرى الذى قامت به مجموعة الضباط الأحرار، والموضوع يحتاج إلى شرح وتفصيل. وهو صراع لم يكن ثأرياً بقدر ما كان صراعاً بين مشروعين؛ الإخوان بالفكرة الإسلامية وعبد الناصر بالفكر القومى العربى. ولذلك دخل عبد الناصر مع الشيوعيين ومع التيارات الليبرالية التى كانت موجودة قبل الثورة فى صراع أدى إلى إقصاء كل التيارات. ولم يصل إلى حد الثأرية حتى فى حادث المنشية، والمشكوك فى صحته، لم يكن هناك أى ثأرية لأن الإخوان لم يكونوا فى السجون، حتى تنظيم 65 والذى تزعمه سيد قطب كان عملا انقلابيا على مشروع عبد الناصر، وكانت أفكار سيد قطب الموجه الرئيس له. ومنذ خروج الإخوان من السجون فى مطلع السبعينيات وبدأت الجماعة فى انتهاج العمل السياسى المتاح من قبل الدولة، وترك العمل المادى أو الانقلابى تماما. ويظل اتهام العمالة هو الاتهام المرفوع من قبل كل الحركات السياسية ضد أصحاب الإسلام السياسى، والسؤال الذى نطرحه بقوة من هو الذى يجب أن يتهم بالعمالة، المعلقون على أعواد المشانق من أيام عبد الناصر وحتى الآن، من لم تفرغ السجون منهم من جميع فصائل التيار الإسلامى من إخوان وجماعة إسلامية وجهاد وسلفيين وقطبين وغيرهم، هل من يتهم بالعمالة هم الشباب الذى قضوا زهرة شبابهم داخل السجون، ولم يكن لهم هدف إلا الدعوة إلى الله بالكلمة والفكر هم العملاء. أم أن العملاء هم الذين أتوا على الدبابات الأمريكية إلى الحكم. هل من تفتح لهم الصحف والفضائيات لينفثوا سمومهم ضد الإسلام هم الشرفاء، ومن تغلق أمامهم كل الطرق فى العمل السياسى هم العملاء. إن الاتهامات الموجه إلى بعض الأنظمة بالعمالة لا تحتاج إلى دليل، فقد كان لبعض من حكام المسلمين أثر واضح فى مساندة أمريكا وأخواتها فى حملتها للقضاء على الإسلام والمسلمين باسم الإرهاب، كما ساندوا سابقاً حليفتها بريطانيا فى هدم دولة الخلافة، لكن الاتهام الموجه للحركات الإسلامية يحتاج إلى دليل. وبالنسبة لاتهام الحركات الإسلامية بأسلمة كل شىء، فهذا هو الطبيعى من أى حركة أو فكر، يسمح له بالدعوة والعمل، ألم يتغير الاتحاد السوفيتى كله إلى الفكر الشيوعى بعد قيام الثورة البلشفية، ألم يقف أصحاب التوجه الليبرالى فى صف كل من يعادى الدين من أجل إعلاء شأن الفكر الحر، وسيطرته على كل مجريات الحياة، هذا شأن كل الأفكار، وما أسلمه كل شىء إلا استجابة لأوامر الله، وهو الدليل القوى على أن الإسلام يلبى حاجة البشرية فى كل مطالبها. ويظل قادة الحركة الإسلامية هم الأكثر نقاء وصفاء داخل الحركات السياسية فى العالم الذى يمتلئ بالعمالة والخيانة، ولا يوجد مكان للأغراض الشخصية، فالكثير منهم لو ظل على حاله لكانت حياته أفضل منها الآن فهم بين مطارد أو مسجون، فهم لم يتبوءوا كراسى الحكم، ولم يدخلوا فى لجنة السياسات، ولم يكن لهم نصيب فى حكومات رجال الأعمال، ولا ننكر أن هناك قلة انحرفت عن الصف وتحالفت مع أعداء الأمة، وهؤلاء تبرأ منهم أبناء الحركة. وفى النهاية يكاد يكون من الحقائق الثابتة لدى أصحاب التيار الإسلامى فى العالم كله، إن انتصار الإسلام السياسى أصبح قاب قوسين أو أدنى، وكيف لا والواقع الصارخ اليوم يشهد أن المشروع الحضارى والتشريعى الوحيد الذى يقف فى مواجهة الحضارة الغربية المهيمنة بثقافتها ومنظومتها التشريعية، هو المشروع الإسلامى الذى بدأت براعمه تنبثق على امتداد الرقعة التى تنتشر فيها الأمة الإسلامية، والذى يتمتع بجذور متينة من العقيدة والتاريخ والتراث والطاقة الروحية التى لا تضاهيها أى منظومة أخرى.