أعتقد أن ثورتنا الشعبية السلمية قام بها الشعب المصرى العظيم بعد أن نفد صبره على حكامه، وأوضاعه وضاق صدره بالتخلف والجمود والاستبداد والفساد واحتكار السلطة والثروة والفوارق بين الطبقات والجهات، وكثير منها يعانى الفقر والبطالة والتهميش والحرمان. ضاق ذرعا بنظام لم يحسن توزيع الثورة أو توظيفها لإحداث نهضة حتى أصبحنا فى قاع العالم. أعتقد أن ثورتنا المباركة كانت بمثابة عاصفة قامت من أجل التغيير والانقضاض على مخلفات قرن كامل أصابنا فيه الوهن والخوف والقابلية للاستبداد وصغر الاهتمامات وتواضع الطموحات. أعتقد أن ثورتنا اللا عنفية قامت عندما كسر الشعب حاجز الخوف ورفض المذلة وأصر على الحرية والكرامة بأى ثمن حتى انفتح باب التغيير وتنحى الدكتاتور وسقط أركان نظامه، الحزب والحكومة والأمن. أعتقد أن عدم وجود قيادة للثورة وعسكرة المرحلة الانتقالية ومواجهة فلول النظام المخلوع واستعجال السلطة وضعت ثورتنا فى مازق كبير وخطير تميز بالفوضى والاضطرابات تؤجّجها إخفاقات النخب وصراعاتهم وانتهازيتهم وأطراف خارجية وداخلية. أعتقد أن السبب الرئيسى لثورة الشعب كان غياب الحرية والديموقراطية فى ظل حالة اقتصادية مزرية ومتردية. أعتفد أن أى ثورة لابد أن يعقبها تغيير ونهضة، أعتقد أن التغيير تم كما يريده الشعب وحسب إرادته الحرة وبانتخابات لا يشكك فى نزاهتها أحد. أعتقد أن قطار النهضة لابد أن ينطلق لتحقيق وفرة اقتصادية ترفع المعاناة عن كاهل الشعب الذى تعانى أغلبيته من الفقر والجوع والمرض. مازلنا نعانى من صعوبات استكمال مؤسسات الدولة الديموقراطية ومازلنا فى مرحلة الوعود بالاصلاحات الاقتصادية ونعانى من انقسام القوى الثورية إلى أطراف تحكم وتتحمل مسئولية تحقيق أهداف الثورة ولكنها بالغت فى الاعتماد على شرعية الانتخابات وتحججت بطول وصعوبة الفترة الانتقالية، وأطراف شعرت بالاستبعاد والإقصاء فراهنت على فشل السلطة الجديدة. وبالغت فى التربص والتعويق. وصل بنا الصراع بعيدا عن هموم المواطن وتطلعاته وأهداف الثورة التى لا يكاد يتحقق منها للمواطن سوى حرية جوفاء بلا أثر أساء البعض استغلالها وتجاهلها الحكام الجدد ثم بدؤوا يضيقون بها ذرعا، وتعاظم اهتمام الناس بالسياسة ولكن ظل سطحيا وسلبيا وقبليا، وتكاد تتحول السياسة إلى أفيون يخدّر الناس ويشغلهم عن أوضاعهم وعن الانخراط الفعال فى الشأن العام. الغريب أن الكل يعلن أنه لا هم له سوى المصلحة الوطنية وتحقيق أهداف الثورة، ولكن كل له تعريفه الخاص لأهداف الثورة والمصلحة الوطنية فللأحزاب الحاكمة تعنى البقاء فى السلطة وللمعارضة تعنى فشل الأحزاب الحاكمة لتحل محلها. وهكذا اختزلت أهداف الثورة ومشاريع الإصلاح والآمال العريضة فى النهضة فى صراع عبثى على السلطة وأصبح سقف الثورة عودة الأمن والاستقرار وربما إحداث بعض التحسينات. السؤال المهم هل من سبيل إلى ثورة سلمية مستمرة تقيك دولة المواطنة وتحقق نهضة يحلم بها الشعب دون اقتتال ودون تناحر وتجاورات وبأقل التكاليف فى الأرواح والممتلكات؟ أعتقد أن التغيير أصبح ضروريا وملحا وحتميا وممكنا بدون اللجوء إلى أى عتف أو حصار أو انتهاك للقانون والدستور. إن المطلوب ثورة فى العقول والنفوس والأخلاق والسلوكيات والمعاملات والاهتمامات والطموحات، تمهّد لنهضة شاملة تقوم على الحرية والعدالة والمساواة والشراكة فى الوطن والمسئولية عن أوضاعه ومستقبله. والإصلاح السياسى ليس إلا حلقة من حلقات التغيير لا هو الحلقة الأولى ولا الحلقة الأخيرة . فالثورة لا تبدأ بالضرورة ولا تنتهى بإسقاط النظام. إن التغيير المنشود لن يتحقق من خلال المظاهرات والاحتجاجات والعصيان وانتهاك القانون بعد البداية الصحيحة والملهمة، التغيير لن يكون إلا تراكميا وشعبيا من قاعدة الهرم إلى رأسه لا يطلب من نظام ولا ينتظر من الساسة والأحزاب ولا تصنعه الدساتير والانتخابات ولا يقتضى بالضرورة إسقاط النظام، بل يحدثه المواطن فى نفسه ثم فى محيطه ومن حوله، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ومن عجز عن النهوض بنفسه والتأثير فى محيطه فهو عن إصلاح البلاد وأوضاعها أعجز. فالتغيير الحقيقى يبدأ من داخل الإنسان ومن يريد أن يغير أوضاعه وأوضاع بلاده فليبدأ بتغيير ما بنفسه: أفكاره وأخلاقه واهتماماته وطموحاته وأولوياته ومعلوماته ومهاراته وسلوكياته ومعاملاته. إن الكثير من الإصلاحات وشروط النهضة مرتبطة بالناس وليس بالنظام (مهما كان فساده أو صلاحه)، ويمكن أن تتحقق فى إطار الدساتير والقوانين القائمة بشرط استبدال عقلية المطالبة بالإصلاح بعقلية المساهمة فى الإصلاح، والانتقال من الانتظار والتمنّى إلى المبادرة وصنع الحدث وذلك بقيام كل مواطن بواجباته وتمسكه بحقوقه وإسهامه فى النهوض بالوطن وخدمة الصالح العام، فجل الحقوق لا تطلب أو تمنح من السلطة، فهى إما حقوق طبيعية، كالحرية والكرامة والمساواة، ينبغى أن يمارسها المواطن أمرا واقعا، أو حقوقا يكفلها القانون ينبغى أن يتمسك بها، أو واجبات على آخرين يطالبهم بأدائها، فواجبات قوم عند قوم حقوق، وإذا تمسك كل مواطن بحقوقه الطبيعية والقانونية كاملة غير منقوصة مهما كان الثمن وأدى واجباته كاملة غير منقوصة تحققت غالبية أهداف الثورة وشروط النهضة، وهذا السلوك كفيل بتغيير القوانين والأعراف التى يرتكز عليها الاستبداد والمسبّبة للتخلف. من هنا من على هذا المنبر الحر أردت أن أقول إن الإنسان بصفة عامة صاحب رسالة وأعتقد أنه لا دين ولا حياة ولا ثورة ولا نهضة بدون رسالة، ولا معنى ولا قيمة للحياة بلا حرية وكرامة ومساواة، فتلك حقوق طبيعية كالحياة لا تطلب أو تمنح من أحد بل يتمسك بها الإنسان ولو خالف القوانين والأعراف ومهما كانت التضحيات حتى تتحول تلك الحقوق الأصيلة إلى أعراف وقوانين مضمونة فى الدستور. علينا جميعا والشباب خصوصا أن نترجم هذه المفاهيم إلى سلوك يومى قوامه الطموح والإتقان وأداء الواجبات والتمسك بالحقوق ورفض الذل ومقاومة الظلم. عاشت ثورتنا المستمرة سلمية.