من المؤكد أن إعلان شباب المحلة الكبرى الثائر عن استقلالها عن جمهورية مصر العربية، جمهورية مستقلة ذات سيادة، له دلالات ومعانى قد تبدو للوهلة الأولى البسيطة من الأشياء المضحكة المثيرة للفكاهة.. إذ كيف تنفصل مدينة كبرى فى قلب الجمهورية ووسط الدلتا عن الجمهورية الأم؟!! هذا شىء من قبيل المستحيل وإلا كان بداية لتفكك الدولة المصرية!! إذ قد يكون مدعاة لغيرها من المدن أن يتنامى لديها الشعور والرغبة فى الاستقلال عن الجمهورية الأم.. ولكن النظرة المتأنية لأى مراقب محايد أو مؤرخ معتدل أمين، قد تبعث فى النفس مشاعر الخوف والقلق على مصير الأمة العريقة الموحدة على امتداد تاريخها الطويل عبر آلاف السنين، ومنذ وحدها الملك «مينا». ولكن السؤال المحير: لماذا تنشأ مثل هذه النزعات للاستقلال فى بلادنا الموحدة أصلا ومنذ زمان بعيد؟!! إن القلة وحدها هى التى تعلم أن المحلة الكبرى كانت دائما هى التى تتلقى غضب العاصمة عليها بإهمالها فى كل شىء.. والقلة وحدها أيضا هى التى تعلم أن المحلة هى التى أبدعت صناعة الغزل والنسيج على أرضها، وعرفت باسم «ديدوسيا» منذ أيام الفراعنة.. لقد قال الزعيم جمال عبدالناصر يوما عنها: «المحلة الكبرى حالة خاصة جدا»!! وشملها برعايتها واهتمامه، وقام بزيارتها، ولم يقل هذا الاهتمام أبداً حتى بعد رفضها شعبيا بفضل إثارة القيادات السلفية الدينية بها من استقبال أحد القادة السوفيت بها، لعله خرشوف، على حد ما أذكر.. تحت دعوى الإثارة أنه من الشيوعيين الذين لا يعترفون بالأديان!! والدين بالنسبة للمحلة من أكبر المحركات للدعاوى الاجتماعية والثورية بها.. فضلا عن احتفائها بكل الأديان السماوية الثلاثة.. فقد كان بها خوخة أو معبد لليهود المصريين، ولكن تم تدميرها تماما وأصبحت فى خبر كان.. بعد العدوان الثلاثى على مصر عام 1956م. وبها الكنيسة الكبرى (كاتدرائية الشهيد العظيم مار جرجس)، وهى من أقدم الكنائس فى الوجه البحرى، وبها أقدم أيقونة على مستوى مصر، وبها مساجد بعدد أيام السنة أى حوالى 365 مسجدا.. ضاع معظمها على يد مافيا تخصصت فى هدم المساجد الأثرية وإعادة بنائها. دون رقيب أو حسيب.. وفى غيبة كاملة شاملة لوزارة الأوقاف، والقصة كلها محزنة ومؤسفة، لضياع معظم المساجد الأثرية بها!! وقد طالتها يد الإهمال كثيرا بعد وفاة الزعيم جمال عبدالناصر وبداية عصر الخصخصة والعودة إلى النظام الرأسمالى البغيض والمتوحش.. وإهمالها فى كل الخدمات فى كل الميادين.. وتوالى عليها رؤساء مدن لا يعرفون شيئا عن الإدارة المحلية، سواء كانوا من اللواءات أو المستشارين.. بل إن بعضهم وضع على رأسها وكان سكرتيرا عاما فى البحر الأحمر، ونقل إليها وهو المحول أصلا أيامها إلى المحكمة التأديبية العليا فى قضايا خطيرة بمحافظة البحر الأحمر.. وكان ينبغى وقفه عن العمل، لا تعيينه رئيسا لمجلس مدينة ومركز المحلة معا!! وغير ذلك كثير.. فضلا عن انهيار صناعة الغزل والنسيج بها فترة الرئيس السابق، بالتهاون مع هجمة المستورد والمهرب، حتى تم إغلاق كثير من المصانع، وتشريد عمالها.. والحكايات كثيرة، تكاد تملأ كتبا!! فإذا جاء أبناء المحلة الثائرين اليوم ليعلنوا استقلالها، فإننى أضم صوتى لصوتهم، إذ معهم كل الحق، مادامت العاصمة المركزية قد أصمت أذنيها تماما عن مطالبها المشروعة، حتى بعد ثورة 25 يناير 2011م. فقط أدعوهم أن يطلقوا عليها اسم (جمهورية ديدوسيا الكبرى) المحلة سابقا.. ولا عزاء لجدنا الأكبر الملك الموقر «مينا» العزيز.. الموحد الأصلى للبلاد. والله من وراء المقصد.