عندما تلقت فرقة موسيقى الحُجرة البرلينية (RIAS) الدعوة للمشاركة بمهرجان "بيروت تُرنّم"، ترددت في بادئ الأمر نظرًا للأوضاع السياسية والأمنية في لبنان. ثم ما لبثت أن حزمت أمرها وأمتعتها واستقلت الطائرة باتجاه بيروت. ينظر تمثال "يسوع الملك" الجاثم فوق تلة "خرائب الملوك" في منطقة زوق مصبح في جبل لبنان من علٍ على رعيته في بيروت. يخضع كل من التمثال ودير كهنة "الآباء الفرنسيسكان" لعملية ترميم وتأهيل منذ أكثر من عامين ونصف العام. إذ أن الحرب الأهلية اللبنانية(1975-1990) ومرور السنين فعلتا فعلهما في التمثال والدير. في الدير أقام منذ العام 1952، وهو العام الذي تم تدشين التمثال فيه، كهنة مسنون ويتامى وراهبات للقيام على خدمة الدير وساكنيه. وقد لاحت بارقة أمل في أحد أمسيات ديسمبر من العام 2013، فأشهر فرق الموسيقى الكلاسيكية الألمانية ستشارك في "مهرجان بيروت ترنّم" وستحيي حفل ميلادي خيري في دير راهبات الصليب. سيذهب ريعه لأعمال الترميم والتجديد. تعايش سلمي للعام السادس على التوالي تحيي فرق وجوقات عالمية حفلات الميلاد المجيد في كنائس بيروت. حيث يؤكد المدير الفني للمهرجان الأب توفيق معتوق "أننا نريد أن نظهر للعالم أن بيروت ليست مدينة حرب فقط، بل أنها تمتلك جانبا ثقافيا غنيا. ويمتزج التراث الموسيقي الإسلامي والمسيحي معًا في هذا المهرجان ويعكسان غنى وتنوع لبنان"، يتابع معتوق. وتؤكد مؤسسة المهرجان، ميشلين ابي سمرا، أن "رسالة المهرجان هي التسامح. لذا يجب أن يتأكد للجميع بأن المسيحيين والمسلمين في لبنان يتعايشون جنبًا إلى جنب وبسلام." دولة هشة لبنان دولة هشة، ذات توازنات دقيقة وحساسة بين أبناء البلد الذين ينتمون إلى ثماني عشرة طائفة دينية. يقوم النظام السياسي فيها على المحاصصة الطائفية، فالميثاق الوطني(اتفاق غير مكتوب يعود للعام 1943) ينصّ على أن يكون رئيس الجمهورية مسيحي ماروني، ورئيس الوزراء مسلم سني ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي. في الماضي القريب كان المسيحيون هم الأكثرية، أما اليوم فلا يتعدون الثلاثين بالمائة من مجموع السكان. والآن فر نحو مليون سوري مسلم من بلدهم إلى لبنان هربًا من الحرب الأهلية الدائرة هناك. ويخشى الكثير من المسيحيين اللبنانيين أن يؤدي ذلك إلى اختلال التوازن الديموغرافي، وأن تنتقل الاضطرابات إلى بلادهم. وتصف يورلكا بارتش من الفرقة البرلينية "أوضاع المسيحيين في لبنان بالصعبة مقارنة بألمانيا"، إلا أنها ترى في إقامة هذا الحفل الميلادي في هذا البلد "بالأمر الرائع". الأجواء هادئة في بيروت حتى الآن، يتخللها تبادل إطلاق نار خفيف بين حزب الله وخصومه في جنوب العاصمة. يحضر حفلتي الفرقة البرلينيةلبنانيون من كل الطوائف: موارنة، دروز، مسلمون، أرثوذكس....الخ. ويجلسون جنبًا إلى جنب مستمتعين بأناشيد وتراتيل عيد الميلاد المجيد. استقبال حار انتشرت نغمات الموسيقى الميلادية العذبة في صحن الكنيسة، لتتناسى المدينة مظاهر قوى الأمن المنتشرين فيها حاملين مسدساتهم وبنادقهم، ومتواجدين حتى هنا على باب الكنيسة. لقد انتاب أعضاء الفرقة شعور غير مريح لدى قدومهم إلى لبنان، فقبل السفر بأسبوعين انفجرت قنبلة أمام السفارة الإيرانية، الأمر الذي جعل أربعة من أعضاء الفرقة يعتذرون عن المشاركة. "تنحصر الاشتباكات والتوتر في مناطق معينة في بيروت، وهذا ما لا يدركه المرء من برلين" يقول مدير الفرقة بيرنارد هيس. منذ اليوم الأول للوصول لبيروت تلاشى الخوف، وحل محله الشعور بكرم الضيافة والدفء. فالمنظمون" يبذلون أقصى ما بوسعهم لتقديم بلدهم بأفضل صورة ممكنة، مما ساهم في بعث الطمأنينة في نفوسنا"، يعقب هيس. مدينة التناقضات والتنوع نزل أعضاء الفرقة ال 34، والمنحدرين من سبع دول، في دير سكنه فيما مضى البابا بينديكس السادس عشر. التقشف هو نمط الحياة في هذا الدير، ولكن بيروت مدينة البذخ والترف والحياة. النظرة من علو على الحاضرة، ذات المليون ونصف المليون ساكن، تخلب الألباب وتسحر العقول. لمعت في الأفق البعيد قمم الجبال المكسوة بالثلوج، والتقى البحر بمياهه الزرقاء بالجبل الأخضر في منظر أخّاذ. استغل أعضاء الفرقة وقت الفراغ القليل للقيام بجولة في المدينة. وسرعان ما اكتشفوا أن بيروت مدينة التناقضات. فبين العمارات العالية تربض الفلل القديمة بطرازها العثماني، ثم يصادف المرء أبنية مهدمة مثقبة بالرصاص منذ حقبة الحرب الأهلية. وتتجاور المساجد والكنائس. فيما تنتصب تماثيل مريم العذراء على المنصفات المرورية. فاللبنانيون وعلى اختلاف معتقداتهم يعلقون الزينة احتفالًا بأعياد الميلاد. على نواصي وأطراف الطرق يجد المرء مزلقة حيوان الرنة المضيئة، بابا نويل، رجل الثلج والكثير الكثير من الأضواء المتلألئة. الشوارع مكتظة بالمارة والسيارات. إنه عيد الميلاد المجيد في بيروت. لمسة جمالية خاصة بيروت أو "باريس الشرق"، كما يحلو للبعض تسميتها، مدينة نابضة بالحياة والغنى والتنوع. فخلال تجوالهم في المدينة استمتع أعضاء الفرقة البرلينية بالمقبلات اللبنانية الشهيرة، ولكنهم لم يجرؤا على تدخين الشيشة. وقابلهم الناس أينما ذهبوا بالترحاب والشكر على مشاركتهم بالمهرجان على الرغم من التقارير الإخبارية، التي تتحدث عن سوء الأوضاع الأمنية في بيروت. "لقد أضفت مشاركتكم لمسة جمالية خاصة على المهرجان"، يقول أحد أعضاء الفرقة نقلًا عن أحد الحضور. لقد كان التصفيق حارًا وعاليًا، مما لامس شغاف القلب. لم تضر الحفل كثرة ذهاب ومجيء الحضور، وعدم التزامهم بالمقاعد المخصصة لهم، فذلك يُعزى للطبع اللبناني، وليس لأي شي آخر. لن أنسى ما حييت الصداقات التي كونتها هنا في لبنان." يقول عضو آخر في الفرقة. هذا المحتوى من موقع دوتش فيل اضغط هنا لعرض الموضوع بالكامل