لم تكن الجلابية الرجالي يومًا قطعة قماش فضفاضة تُرتدى، بل كانت حكاية وطن، تُسكن الجسد، وتروي قصة أمة، فيها ملامح الأرض، ولون الطين، ورائحة النيل، وعرق الفلاحين والصعايدة الذين شاركوا بصبرهم وتضحياتهم ودمائهم في بناء دولة كانت حتى سنوات قليلة تقوم على الزراعة وتأكل من كد أصحاب الجلاليب. الجلابية تختصر الهوية والبساطة والعزة معًا، وتختبئ في طياتها ذاكرة قرون طويلة من الكدح والكرامة لتُعلن انتماءً لا يحتاج إلى توضيح، وحين ارتداها بعض رؤساء مصر، لم تكن اختيارًا عابرًا، بل كانت رسالة رمزية تقول إن الزعامة لا تُستمد من القصور، بل من الأرض التي أنجبتهم، لذا كسروا البروتوكول ليعودوا إلى جذورهم الأولى. البداية كانت مع أول رئيس للجمهورية في مصر، اللواء محمد نجيب، الذي ظهر في أواخر حياته بزي مصري خالص في الصور القديمة التي عادت إلى الضوء مؤخرًا، حيث يظهر مرتديًا الجلابية البلدي، لم يكن يتصنع البساطة، بل يعيشها كما عاشها قبل السلطة وبعدها. في تلك اللقطات يقف كأنما أراد أن يقول: "من هذه الأرض جئت، ولها أعود". كان نجيب، ابن الريف، يعرف أن الجلابية ليست لباس فقر، بل رمز انتماء، وحين خرج من الحكم، ظل يرتديها كأنما يصر على أن السلطة تزول، أما الهوية فتبقى.
أما الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، الذي قالوا إنه ألغى الجلابية البلدي لصالح البدلة الشعبية، فإن الحقيقة أنه لم يُلغِ الجلابية.. القصة تبدأ قبل عام 1964، حيث كانت الجلابية هي السائدة في أزياء عمال المصانع وفراشين المدارس والهيئات الحكومية، ولكن في يوليو 1964 أصدر وزير العمل آنذاك أنور سلامة قرارًا بمنع العمال من ارتداء الجلابية في المصانع تنفيذًا لتوجيهات عبدالناصر، وذلك حرصًا على السلامة وسهولة الحركة.. وتم استبدالها بالبدلة الشعبية لأنها الأكثر عملية في التعامل مع الماكينات، وذلك بعد وقوع العديد من الحوادث للعمال بسبب استخدام الجلابية الفضفاضة في العمل، كان الهدف عمليًا، لكنه في جوهره يعكس عقلية دولة تبحث عن مظهر الحداثة دون أن تنكر أصولها. أكثر من هذا، ظهر عبد الناصر في صور نادرة بالجلابية، أولها كان في مستشفى مظهر عاشور عام 1953 أثناء مرضه، وأخرى في فترة الستينيات وهو يحتضن القطب الصوفي الشيخ أحمد رضوان في الأقصر.. وهو ما يكشف عن الوجه الإنساني الذي ظل ملازمًا له بعيدًا عن الرسميات والبروتوكول، في تلك الصور لم يكن ناصر هو الزعيم القومي، بل ابن الصعيد الذي يعرف لغة الأرض والناس.. وربما لذلك بقيت صورة عبد الناصر بالجلابية تتصدر بيوت الصعيد كصورة "واحد منهم".
أما الرئيس الراحل أنور السادات، فقد حوّل الجلابية إلى بيان سياسي مكتوب على الجسد حين ارتداها في قريته ميت أبو الكوم، أو في زياراته الخارجية كما في لقائه بالملك خالد في صحراء السعودية، كان يعرف أنه يكتب سطرًا جديدًا في معجم الزعامة المصرية، وقد قالها ذات مرة ببساطة وصدق: "أنا فلاح من ميت أبو الكوم.. ولن أستحي من جذوري". بالجلابية، أعلن السادات أن السلطة لا تعني الانفصال عن الناس، وأن الرئيس ليس من يسكن القصر، بل من يسكن الذاكرة الشعبية، وحين وقف على منصة النصر في أكتوبر، كان الزي العسكري فوق جسده، لكن الجلابية كانت تسكن روحه.
في زمنٍ صار فيه بعض المصريين يتوجسون من هويتهم، ويعتبرون الجلابية رمز تخلف، يظهر من جديد الجدل حول منع دخولها إلى أماكن عامة أو مؤسسات حكومية، ومنها المتحف المصري الكبير، الذي زاره مؤخرًا مواطن يرتدي الجلابية الصعيدي مع زوجته، فحدث ما حدث.. وهكذا صنعت الإعلامية سمر فودة، ابنة المفكر الراحل فرج فودة، عاصفة غضب طرحتها أرضًا وأسقطت عنها لهجتها الاستفزازية، حتى اضطرت للاعتذار، مؤكدة أن جذورها من الفلاحين، وأن والدها كان يرتدي الجلابية!
إن الأمم تُكرّم زيها الشعبي والوطني لأنه جزء من ذاكرة الوطن، الهند تفعلها في الساري الذي يدخل قصور الحكم، واليابان تفعلها في الكيمونو الذي يُرتدى في الاحتفالات الرسمية، فلماذا نتردد نحن ونتوجس، بل أكثر من ذلك نزدري زيًا يرتديه ملايين المواطنين من الدلتا إلى الصعيد؟
التهكم على الجلابية ليس إلا هزيمة للوعي؛ فالجلابية التي سخر منها البعض ليست إلا دليلًا على نبل الكفاح، وهي نفسها التي حفر بها الفلاحون والصعايدة قناة السويس، وشيّدوا السد العالي، وشقوا الترع والمصارف في طول مصر وعرضها، ودخل بها رؤساء التاريخ من بابه الواسع.
مهما تبدلت الأزياء وتغيرت المدن، تبقى الجلابية حاضرة في وجدان المصريين، تتلون بالأجيال وتبقى كما هي؛ لأنها ليست مجرد زي شعبي، بل علم مرفوع على جسد الوطن، وإعلان يومي عن استمرار مصر القديمة في قلب مصر الحديثة، فقد ارتداها الفراعنة في صورها الأولى، وورثها الفلاحون والصعايدة جيلًا بعد جيل. فمن نجيب الذي ارتداها بعفوية، إلى عبدالناصر الذي اقترب منها في لحظاته الإنسانية، إلى السادات الذي جعلها شعارًا لزعامة من طين البلد، تبقى الجلابية إحدى أبرز رموز الهوية الوطنية، وهي تذكير بأن مصر، مهما لبست من أزياء العالم، تظل تفخر بزي أبنائها في الصعيد وبحري. ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار ال 24 ساعة ل أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري ل أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية. تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هنا