كان الطفل سيد درويش بعد انصرافه من المدرسة يجتمع بأصدقائه الصغار ممن هم في سنه ويذهبون جميعًا إلى مسجد «سيدى حذيفة اليمانى» ويأتون بصندوق كبير من الخشب ليقف عليه سيد وينشدهم ماكان يحفظه من الحان سلامة حجازى كانت والدته تقول إنه لم يكن قد بلغ الأربعين يومًا، إذا سمع صوتا حنونا أو موسيقيا يترك ثديها ويدور بعينيه باحثا عن مصدر ذلك الصوت، وتوفي والده ولم تكن سنه قد بلغت السابعة، فنقلته والدته إلى مدرسة أهلية افتتحها شاب من أهل الحي اسمه "حسن افندي حلاوة". في هذه المدرسة تلقى الطفل أول شعاع من أشعة الموسيقى إذ كان أحد مدرسيها "سامي افندي" مولعًا بحفظ الأناشيد والسلامات وكان يلقنها للتلاميذ فلم يلبث الصغير أن فاق جميع أقرانه في حفظ الأناشيد فأصبح "الألفة" عليهم وظل بهذه المدرسة قرابة عامين يحفظ القرآن الكريم ثم أغلقت المدرسة عقب اتفاق منشئها مع أحد أصدقائه على الاشتراك معه في إدارة "مدرسة شمس المدارس" التي كانت وقتئذ بجهة بحري شارع سيدي الحلوجي فانتقل إليها ولحسن الحظ كان بها مدرس اسمه "نجيب افندي فهمي" قد التحق بعد ذلك بفرقة الأستاذ جورج أبيض لعمل "الماكياج" لأفراد الفرقة، كان هذا المدرس ممن يجيدون حفظ ألحان الشيخ سلامة حجازي. كان الطفل سيد درويش بعد انصرافه من المدرسة يجتمع بأصدقائه الصغار ممن هم في سنه ويذهبون جميعًا إلى مسجد "سيدي حذيفة اليماني" ويأتون بصندوق كبير من الخشب ليقف عليه سيد وينشدهم ماكان يحفظه من الحان سلامة حجازي وكان أهل الحي يطربون من ذلك الطفل العجيب ويصفقون له ويشجعونه. وفي ذلك الحين أصدر الخديو عباس أمرًا بإنشاء "المعهد الديني العلمي" بالإسكندرية برئاسة الشيخ محمد شاكر وكانت السنة الدراسية الأولى بمسجد "سيدي ابي العباس" والسنة الثانية بمسجد "الشوربجي" بالسكة الجديدة والميدان، فانتسب إليه سيد درويش بزيه المعمم، وقد استمر في طلب العلم بالمعهد ما يقرب من عامين انقطع بعدها ليخدم السيرة النبوية الشريفة، بعد ما رأى أن استمراره في هذا المعهد سيقف حائلًا بينه وبين ما يحسه في قرارة نفسه من ميل إلى الموسيقى والغناء. عندما بلغ سيد درويش السادسة عشرة من عمره تزوج، ولم يمض على ذلك الزواج بضعة أشهر حتى كسد سوق عمله، ولم يعد أمامه منفذ للرزق، وقضت الظروف عليه أن يتدرج في بيئة تخالف البيئة التي نشأ فيها، فاشتغل لأول مرة بالغناء بفرقة "جورج داخور" التي كانت تعمل بجهة كوم الناضورة بقهوة "إلياس"، وكانت الفرقة تحمل اسم "كامل الأصلي"، فكان يلقي الشيخ سيد بعض أغاني الشيخ سلامة حجازي بهذه المقهى إلى أن اضطرته الظروف بعد حل الفرقة، إلى أن يغني في مقهى "أبو راضي" في حي "الفراهدة"، ولكن لم يطل عمله بها وتركها وبدأت الدنيا تضيق في وجهه، وأخذ يبحث عن عمل إلى أن عمل مناولا للبياض وتصادف أن كان بجوار العمارة التي يعمل بها مقهى كان يجلس عليه الأخوين أمين وسليم عطا الله، وبدأ العمال يرجون سيد أن يغني لهم شيئا فجلس على السقالة يغني لهم، وما أن سمعه الأخوان أمين وسليم عطا الله حتى أعجبا به واتفقا معه على السفر للأقطار السورية مع فرقتهما. 1909 ميلادية.. الرحلة الأولى في حياة "درويش"، وتصادف أن يوم وصوله كان رزق بولده محمد البحر، وأمضى في تلك الرحلة نحو عشرة أشهر تعرف خلالها بالأستاذ عثمان الموصلي وأخذ عنه من التواشيح والقدود. بعد عودته من رحلته الفنية الأولى بدأ سيد درويش يستأنف جهاده من جديد في سبيل العيش وأصبح عليه أن يسعى لا ليكسب قوته وحده، بل قوت والدته وزوجته وولده، وعاد إلى العمل بالمقاهي وظل يعمل على هذا المنوال قرابة عامين، حتى اشتدت الأزمة أيام حرب طرابلس وحالت بينه وبين أن يجد عملا، فاشتغل كاتبا بمحل لتجارة الأثاث كان ملكا لصهره، ولكنه لم يستمر في هذا العمل أكثر من أربعة أشهر، ثم عاوده الحنين إلى فنه فاشتغل في (بار كوستي) بأول شارع انسطاس، وعلم صهره بعودته للاشتغال بالغناء وفي "بار" وكان رجلا رجعيا، فأقسم بالطلاق ألا يدخل سيد درويش المنزل إلا إذا اعتزل الغناء. الرحلة الثانية الطلاق الذي حلفه صهره جلعه يتراجع عن استكمال رحلته الفنية، فحبه لشقيقته أكبر من حلمه، لكن ما هي إلا أشهر قليلة حتى أرسل الله له أمين وسليم عطا الله الذي اتفقا معه على السفر للرحلة الثانية للأقطار السورية في 1912، فكانت هذه الرحلة هي الحجر الأول في بناء مجده وقد استمرت عامين ورجع بعدها إلى الإسكندرية، بعد أن امتلأت جعبته الفنية من فن عثمان الموصلي وممن كان يتصل بهم من كبار الموسيقيين ورجال الفن هناك وقد حفظ الكثير من الأغاني والموشحات، كما أحضر معه الكثير من الكتب الموسيقية، وقد عثر بينها على كتاب موسيقي اسمه "تحفة الموعود في تعليم العود". قهوة "السلام" محطة "درويش" الأولى بعد عودته من رحلة الشام الثانية، ثم انتقل منها إلى قهوة "سلامون" ثم "الحاميدية" ثم "نلسون" وخلال هذه المدة أي نحو 1914 تعرف بجليلة وكان سيد درويش يعتقد ويؤمن أنها مصدر وحيه وإلهامه وتقول هي إنه ما من لحن لحنه إلا كانت له بينهما مناسبة. في ذلك الحين بدأت ينابيع فن سيد درويش تتفجر وبدأ في التلحين، فأخرج أول دور له وهو "يا فؤادي ليه بتعشق" الذي تقدم ذكره ثم تبعته أدوار أخرى، ومن الطقاطيق التي اشتهر في تلك الأيام ولا تزال مثل "زوروني كل سنة مرة" وكان قد لحنها عقب سوء تفاهم وقع بينه وبين محبوبته أدى إلى خصام بعض الوقت، وأصبح أصحاب المقاهي يتخاطفونه. سيد درويش في القاهرة 1917.. الإسكندرية التي منحت "درويش" لخطة الميلاد البشرى والفنى أيضًا، ضاقت به فنصحه بعض أصدقائه المقربين بالسفر إلى القاهرة وأقام أول حفلة له بها في كازينو "البسفور"، وما هي إلا أيام قليلة وقام "درويش" بالاتفاق مع مع جورج أبيض ليلحن له رواية "فيروز شاه" فكانت أول رواية لحنها، ليتفق بعدها مع نجيب الريحاني على تلحين رواياته، وكانت أول رواية لحنها له "ولو" التي نجحت نجاحا كبيرا. الموسيقار الصغير القادم من عروس البحر المتوسط، سرعان ما بدأ نجمه في الصعود وبعد ذلك أخذ يمطر المسارح بالروايات ما يعد بحق دررا خالدة. "قوم يا مصري مصر دايما بتناديك خد بنصري نصري دين واجب عليك"، ولحن "إحنا الجنود زى الأسود نموت ولا نبعش الوطن" و"بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" جميعها كلمات لحنها "درويش" ليكون له دور في إلهاب حماسة الجماهير المصرية التي خرجت في 1919 لتطالب بالدستور والحرية وفك أسر الزعيم الوفدى الراحل "سعد زغلول"، وكتب التاريخ تحمل في طياته شهادات تؤكد دور "درويش" في لعب دور كبير جدا في إشعال حماس الجماهير وتشجيعهم على الثورة ضد الظلم.