استعرضنا في الحلقة "14" من رواية "زمكان" سعى البطل لتحدى الموت، فهو إلى الآن لم ينمو عقله، ويفكر في الالتحاق بكلية الطب عند الكبر من أجل اختراع دواء لمواجة ذلك، كما أن يصر على الدخول إلى القبر من أجل مواجه الموت في عقر دراه. "وفي السعيدية تكون لي رفاق جدد كلهم من أقاربي ومن جيلي، وبعضهم معي في نفس المدرسة، إذ تبتعد مدرسة هاشم الرفاعي عن السعيدية بنفس المقدار الذي تبتعد فيه عن "التفتيش" وكنا نذهب إليها من السعيدية في القطار، في حين كنا نذهب إليها من التفتيش في "الترولي" الذي كنا نطلق عليه ترولي الملك. كان رفاقي الجدد هم مصطفى الشرقاوي ابن خالتي "فاطمة" وأحمد ابن خالي سعيد، وحسن ابن جدي أحمد " جدي أحمد هو الشقيق الأصغر لجدي العمدة" كنا نمضي يومنا معا لا نفارق بعض إلا وقت النوم، وكانت أطيب أوقات المذاكرة عندنا هي تلك الساعات القليلة التي نستذكر فيها دروسنا في مَقام "سيدي سعيد" الذي كان يتوسط المسجد الكبير بالقرية، كان أهل القرية يحكون كثيرا عن كرامات سيدي سعيد، وكان كل ما يعرفه الناس عنه أنه كان من الصحابة الذين جاءوا مع جيش عمرو بن العاص إلى مصر، وأنه أقام في بلبيس فترة ثم تركها في آخر أيامه وأقام في هذا المكان وشيد لنفسه بيتا صغيرا فيه أصبح مقاما له فيما بعد. كان جدي العمدة رجلا شديد الطيبة إلا أنه كان في نفس الوقت حازما، شخصيته طاغية ورأيه حكيم، ولديه فراسة غريبة، بحيث كان يعرف من عيوننا الأخطاء التي ارتكبناها، ومع شدته كنا نحبه ونسعد بالجلوس معه والاستماع إليه، وجدته نمطا فريدا من الناس، كلماته، عباراته، تفسيره للأحداث السياسية، قراراته كعمدة، فهمه للدين، كل هذه الأشياء كان مختلفا فيها عن باقي الناس، حتى أنه كان يخبرنا بأننا سننتصر على إسرائيل بعد عامين ولكن أحدا من أقاربنا لم يكن يصدقه، كانوا يعتبرونه "كبر وخرَّف" ولكنه دائما كان متأكدا مما يقول. وكان في عبادته مختلفا عن الذين أعرفهم، فقد كان ينام بعد صلاة العشاء بساعة، ولكن نومه كان متقطعا إذ كان كثيرا ما يقوم للذهاب إلى دورة المياه ثم يعود إلى فراشه حتى يستيقظ تماما في الثلث الأخير من الليل، ويظل صاحيا يصلي متهجدا لله، وكنت أحيانا أستمع له وهو يدعو الله قائلا : اللهم اغفر لأخي أحمد الشيباني، وأخي عبد الله، وأخي مصطفى، اللهم أسعدهم واجمعني بهم في جنات الفردوس. وكان يقضي يومه ما بين قراءة القرآن وتصريف أمور البلد، إلا أنه كان يعتمد بشكل كبير على خالي سعيد الذي كان يساعده في شئون العمودية. وفي شهر رمضان كان يأتي إلى بيت جدي "الشيخ عبد الرحمن عرفه" وهو رجل من رجال القرآن ويمت لنا بصلة قرابة، وما أن يدخل الشيخ إلى الدار بعد صلاة العشاء حتى يلتف حوله رجال الأسرة وشبابها وأطفالها فيبدأ في قراءة القرآن بصوت ندي خاشع، ويستمر في القراءة إلى وقت السحور، فيتسحر ثم ينصرف. وغالبا كان المكان يخلو من الأقارب قرب السحور، إلا أنني كنت أظل جالسا مع الشيخ أسمعه وهو يقلد الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وكان حين يقرأ وأنا جالس معه وحدي يتوقف عند بعض الآيات ويشرح لي معناها ببساطة شديدة. وفي أحد الليالي كان يقرأ من سورة النحل "أتى أمر الله فلا تستعجلوه" كان جدي يجلس معنا وقد انفض القوم إلى شئونهم، استوقفت الشيخ وسألته : كيف يكون أمر الله قد أتى ومع ذلك لا نستعجله ؟. قال الشيخ : نزل الأمر بأمر الله من عند الله إلى الدنيا، ولكنه لم يدخل إلى علمنا بعد، وسيدخل في علمنا عندما يقدر الله ذلك. لم أفهم شيئا من الشيخ، فهممت أن أستفسر منه ولكن جدي أوقفني وقال لي : سنتحدث عن ذلك لاحقا. لم يتحدث بعدها جدي معي في هذه الآية، ومرت الشهور ونجحت في الإعدادية، وعدت إلى القاهرة حيث أمي وأخوتي، إلا أنني كنت قد تعودت على السعيدية وعلى الساعات التي أقضيها مع رفاقي، والساعات التي أجلس فيها مستمعا لجدي، فكنت أقضي الأجازة الصيفية كلها في بالسعيدية. وفي الأجازة التي حصلت بعدها على الثانوية العامة قضيت شهور الصيف عند جدي، وفي هذه الأجازة قص لي جدي حكاية وقعت له وعاش فيها، كانت البداية عندما قلت له ذات يوم : لم تجبني يا جدي عن سؤالي القديم. ابتسم جدي وقال : نعم.. الآية التي قرأها الشيخ عبد الرحمن، أعرف أن هذه الآية تشغل بالك منذ أن فتحت المصحف يوم موت أبيك فوجدتها أمامك. ذهلت، لم أكن قد قلت لأحد من قبل أي شيئ عن هذا الأمر، فكيف عرف جدي ؟! استرسل جدي : هناك أشياء لا تستطيع أن تعرف معناها إلا إذا عشتها، فعقولنا نسبية، والعقول النسبية لا تستطيع أن تفهم الأشياء المطلقة ولكنها تستطيع أن تلمس جانبا منها، وقد تلمس جوانب أكثر لو عاشت حقيقة في المعنى، ولكن كل الحقيقة ليست معنا، الحقيقة عند صاحب الحقيقة. وجدت كلام جدي غامضا، لأول مرة لا أفهمه، وقبل أن أستفسر قال لي : انتظر، ستعرف حالا ما خفي عليك، هذه الآية ترتبط بغيب غاب عنا خبره، ولكنه مع ذلك موجود في دنيانا، والله يقول لنا إننا سنعرف هذا الشيئ قريبا، هل فهمت ؟. أومأت نعم، عاد للكلام قائلا : ليلة القدر ننتظرها في شهر رمضان، أليس كذلك. بالتأكيد. نقول إنها تتنزل إلينا في الدنيا في العشر الأواخر من رمضان، أو في الليالي الفردية من العشر الأواخر، ويظل الناس ينتظرون الليالي الفردية بفارغ الصبر، ثم بعد ذلك هناك من يقول إنها كانت في يوم كذا، والآخر يقول لا إنها كانت في يوم كذا، وذاك يدلل على رأيه بعلامات يذكرها، وهذا يذكر علامات أخرى رآها في اليوم الذي حدده. نعم أنا سمعت مثل هذه الحوارات كثيرا. وطبعا أنت تعرف أن الدول العربية تختلف أحيانا في بداية رمضان على حسب اختلافهم في رؤية الهلال. فعلا يا جدي، هذا صحيح. وبالتالي يا عبد الله تكون الليالي الفردية عندنا زوجية عند البلد الآخر الذي صام قبلنا أو بعدنا. لم آخذ بالي من هذا الموضوع من قبل!. والسؤال هو متى تكون ليلة القدر ؟. علمها عند الله. والله أعطى لنا مفاتيح هذا العلم. كيف ؟ ليلة القدر موجودة بيننا وما علينا إلا أن نسعى للوصول إليها، لذلك فالرسول قال التمسوها، والالتماس مستمد من "اللمس" واللمس لا يكون إلا لشيئ موجود وملموس، فأنا مثلا لو خبأت كنزا في مكان لا يعرفه أحد، وحددت له علامات، وقلت لك التمس هذا الكنز، فإنك ستبحث عنه وفقا للعلامات التي قلتها لك، ولكن في كل الأحوال الكنز موجود ولكنه غُيّب عنا. فهمت، معنى ذلك أن الغيب لا نعرفه ولكنه موجود في الدنيا، والله إذا أراد يكشفه لمن يشاء. استمر جدي وكأنه لم يسمعني : وعلى نفس المعنى كل الاختراعات الحديثة كانت غيبا ثم كشف الله سرها لم شاء من عباده، الراديو كان غيبا والتلفزيون، والتصوير، والتليفون، ولذلك تجدني شغوفا بكل الاختراعات، فأنا أول من اشترى راديو ترانزستورفي الشرقية كلها، واشتريت تلفزيونا مع بداية الإرسال رغم أنه لم تكن هناك كهرباء عندنا في الريف كله، وأظنك شاهدت هذا التلفزيون وهو يعمل ببطارية السيارة التي كنا نشحنها يوما بعد يوم، وتعرف أن لديَّ ثلاجة كانت تعمل بأنبوبة البوتاغاز، ولا يوجد اختراع عرفته البشرية إلى الآن إلا وهو عندي، بل إنني سأريك شيئا ما يذهلك. أخرج جدي من جيبه صورة له وهو في الخمسين من عمره، وكان معه في الصورة شخصان لا أعرفهما أحدهما يبدو في الخمسين مثله وإن كان شكله ليس غريبا عليَّ، والثالث يبدو أكبر منهما سنا، وجنتاه غائرتان وعيناه جاحظتان، وجانبا وجهه مليئان بالتجاعيد، وعمامته غريبة. هذه صورة ملونة يا جدي ! والتلوين لا يوجد إلا في بعض استديوهات بالقاهرة، فهل كانت هذه الصورة أبيض واسود ثم لونتها حديثا في أحد الاستديوهات ؟ ثم من هذان الرجلان اللذان معك في الصورة، أحدهما شكله ليس غريبا عني. هذا علم سأقوله لك اليوم إن شاء الله، وستجد في الذي سأرويه لك إجابات قد تساعدك على فهم أمور شغلتك كثيرا. أي أمور ؟ الموت، والحياة، والزمن، والكفر، والإيمان، والشرك، والإسلام، والمسيحية، والجنة، والنار، والرحمة والمغفرة، والعدل، والحرية، والعقل. يا جدي أمرك معي غريب، من أين عرفت أن هذا الأشياء شغلت بالي. أنت رويت لي بعضها عرضا، وأنا تفرست البعض الآخر، واليوم وفي الثلث الأخير من الليل ستستيقظ معي فنصلي ركعتين ثم سأروي لك أمرا، ستظنه أسطورة، وما هو بأسطورة، ولكنه حقيقة مسطورة. لم أستطع النوم، أخذت أتقلب يمينا ويسارا وأترجى النوم أن يزور جفوني ولكنه أبى واستعصم، كان شغفي بمعرفة الأسطورة فوق احتمالي، وأنا بطبيعتي شغوف للمعرفة فظللت أفكر في ماهية هذه الأسطورة حتى سمعت صوت جدي يدعوني للاستيقاظ، فقمت مسرعا وكأنني أسبق جسدي حتى أقف على هذه الأسطورة. كان رأسي مشوشا وأنا أصلي الركعتين وراء جدي، وبعد أن فرغنا من الصلاة روى لي جدي حكاية لم أستوعبها، كان يمسك الصورة وهو يحكيها، وكان يبكي في بعض مواضعها، حتى أنني كنت أبكي معه، وحين وصل إلى نهاية القصة علا نشيجه، وفقدت وعيي.