وكأن الدنيا ضاقت عليهم بما رحبت، فاحترفوا صناعة الموت.. أعمى الطمع والجشع عيونهم، فجمعوا أمعاء الماشية والطيور، وحولوها إلى خيوط جراحية فى مصانع "بير السلم"، دون مراعاة لأبسط قواعد النظافة والتعقيم.. باعوا منتجاتهم الفاسدة لمستشفيات خاصة ومستوصفات خيرية لتستقر بفيروساتها وأوبئتها فى أجساد الغلابة، لتنقل لهم أخطر الأمراض القاتلة.. ولعل الواقعة الأخيرة التى كشفت عنها الأجهزة الأمنية فى الإسكندرية تدق ناقوس الخطر وتلفت نظر الأجهزة الرقابية سواء فى وزارة الصحة أو غيرها، إلى الخطر المحدق بصحة المواطنين جراء انتشار مثل هذه المصانع غير المرخصة، وفيها تم ضبط نحو ربع طن من أمعاء الماعز والدواجن المتعفنة، داخل شقة فى الطابق الأرضى بمنطقة العصافرة، حولها صاحبها إلى مصنع لإنتاج الخيوط الجراحية.. محقق "فيتو" رصد مراحل إنتاج تلك الخيوط وأماكن تجميع الأمعاء فى الأسواق المختلفة.. وكشف الأضرار الصحية الناتجة عن استخدامها، فى الموضوع التالى: انتقل المحقق مع مرافقه إلى واحد من أشهر أسواق الجزارة فى الإسكندرية وهو سوق "باب عمر باشا" الذى يمتد من منطقة العطارين حتى محطة مصر، وفيه شاهد جميع مراحل ذبح وسلخ وتقطيع الماشية، ثم تحميل اللحوم على سيارات نقل لتوصيلها إلى محلات الجزارة دون أى نوع من أنواع الرقابة من أية جهة حكومية.. وشاهد العمال وهم يجمعون أمعاء الماشية خصوصا الماعز ويضعونها فى براميل زرقاء اللون ويتركوها فى مكان محدد.. سأل مرافقه عن هذه البراميل فقال: " أمعاء الماعز والخرفان يطلق عليها فى السوق اسم "هنكات" وهذه لا تباع ولا تشترى تقريبا.. يجمعها الجزارون ويخزنونها فى تلك البراميل لفترات طويلة قد تصل إلى 15 يوما قبل أن يبيعوها لأصحاب مصانع الخيوط الجراحية غير المرخصة بأسعار تتراوح بين خمسة وعشرة جنيهات للكيلو الواحد، وبالطبع تكون قد فسدت وفاحت منها الروائح الكريهة.. ثم يتم نقلها إلى أماكن تلك المصانع التى عادة ما تكون فى "البدروم" أو شقق ضيقة فى عمارات سكنية.. داخل المصنع يبدأ العمال فى فرز الأمعاء المتعفنة، وانتقاء السليم منها (غير الممزق) وغسله يدويا بالماء والخل فقط ويشقونها حتى تتحول إلى ما يشبه الشرائط، ثم يضعونها على أجولة بلاستيك فى الشارع لمدة 3 أيام حتى تجف تماما.. بعد ذلك تصبح "الهنكات" جاهزة لعملية التصنيع، حيث تدخل على ماكينات خاصة تحولها إلى خيوط رفيعة.. كل ذلك يحدث دون إضافة أى مواد حافظة أو مطهرات قاتلة للبكتيريا والجراثيم، ثم تغلف الخيوط فى أكياس بلاستيك مختلفة الأشكال".. واصل المحقق جولته فى الإسكندرية بحثا عن المزيد من التفاصيل فى هذه القضية المهمة.. وبالقرب من العامرية، تجول فى سوق "عبد القادر" وهناك شاهد أعدادا كبيرة من البراميل الزرقاء مغلقة وملقاة بإهمال شديد ويتجمع عليها أعداد هائلة من الذباب.. سأل مرافقه عن تلك البراميل فأجاب: "هى تحتوى أيضا على أمعاء تستخدم فى تصنيع الخيوط الجراحية، ولكنها هذه المرة أمعاء دواجن، يتم جمع الأطنان منها من مجازر الطيور أو من محلات الدواجن خصوصا المنتشرة فى سوق الهانوفيل الرئيسى مقابل جنيهين فقط للكيلو الواحد.. بعد ذلك تنقل إلى مصنع الخيوط لتمر بمراحل التصنيع المختلفة دون مراعاة لأبسط قواعد النظافة أو التعقيم وعن كيفية تسويق هذه البضائع أو المستلزمات الطبية مجهولة المصدر قال: " تعد المستشفيات والعيادات الخاصة والمستوصفات الطبية التابعة للجمعيات الخيرية، هى المستهلك الرئيسى لهذا النوع من الخيوط الجراحية المصنوعة تحت "بير السلم"، خصوصا فى مناطق العصافرة، وسيدى بشر، والعامرية، وكليوباترا، والمعمورة، والضاهرية.. ومسئولو تلك المستشفيات والمستوصفات يفضلون التعامل مع تلك المصانع لعدة أسباب أهمها: رخص أسعارها مقارنة بأسعار الخيوط المعتمدة، والشراء يكون بشكل مباشر دون الحاجة إلى مناقصات ومزايدات أو مساءلة عن المواصفات القياسية، كما أن بعض مسئولى تلك المستشفيات يحصلون على عمولات مالية من أصحاب المصانع فى حالة شراء كميات كبيرة من تلك الخيوط..كل ذلك يتم فى سرية تامة وبعيدا عن أعين الجهات الرقابية". بعد أن جمع المحقق كافة المعلومات والبيانات عن مصانع الخيوط الجراحية غير المرخصة.. التقى الدكتور على بدر الدين الخبير البيئى وسأله عن الأضرار البيئية الناتجة عن تجميع أمعاء الماشية وتركها لفترات طويلة حتى تتعفن فقال: "أمعاء الماشية المتعفنة تصدر عنها غازات قد تكون سامة فى بعض الأحيان، نظرا لاحتوائها على كميات كبيرة من البكتيريا الضارة.. أيضا الروائح الكريهة تساعد على انتشار الأمراض الصدرية والمنقولة عبر الهواء أو الذباب الذى يتجمع على تلك الأمعاء، فضلا عن أن الدم المتجلط عليها يتسبب فى تلويث المجارى المائية التى تصرف فيها المجازر مخلفاتها".. أما الأمراض التى قد تصيب الإنسان جراء استخدام الخيوط الجراحية المصنعة من تلك الأمعاء فهى كثيرة وخطيرة أبرزها: التسمم الدموى نتيجة لعدم التعقيم الجديد للخيوط الجراحية التى غالبا ما تكون ملوثة بالبكتيريا والفيروسات الخطيرة، الإصابة بالالتهاب الكبدى الوبائى بكافة أنواعه، وانتشار الديدان مثل الاسكارس والانكلستوما، والانتاميبا هستولوتيكا، وغيرها من الأمراض الخطيرة.. كل ذلك إلى جانب أن الخيوط الجراحية مجهولة المصدر والمصنعة دون رقابة أو معايير معتمدة، لا يتم امتصاصها داخل الجسم، ومن ثم قد لا يلتئم الجرح الداخلى وتتسبب فى أضرار ومضاعفات خطيرة للمريض".