بالرغم من توقع مثل تلك الخطوات الإثيوبية في المستقبل القريب على خلفية أزمة حوض النيل، أثار خبر تحويل إثيوبيا لمجرى النيل الأزرق، المورد الرئيسي للنهر في دولتي المصب، حالة من الاستهجان والغضب التي امتزجت بقلق بالغ على المستوى الشعبي لما ينطوي عليه الخبر من إشارة ملموسة وجادة لتدشين سد "النهضة" الإثيوبي، والذي يشكل قلقا مستمرا على الأمن المائي المصري، يعلو ويخفت صداه داخل الأوساط المصرية منذ عدة سنوات. هناك أزمة بالفعل، تتشابك وتتباين أبعادها ما بين أكثر من طرف وزاوية نظرا للغموض المحيط بها نتيجة انعدام الشفافية حول الملف قبل وبعد الثورة، وقد تم تجاهلها في فترات وتم التعامل معها بشكل خاطئ في فترات أخرى، بينما ما يعد عجيبا أننا كمصريين، سلطة وشعب، مازلنا ندور في دائرة الإبقاء على "حصة مصر التاريخية" إلى وقتنا هذا من دون الالتفات إلى ضرورة زيادة تلك الحصة بما يتناسب مع معدل زيادة السكان وأثره على استهلاك المياه وهو ما سوف يؤدي في النهاية إلى الفقر المائي حتى لو لم تفكر إثيوبيا في بناء سد النهضة من الأساس. هناك قصور حاد في الرؤية ويمتد عبر الأنظمة المصرية كافة، لا يعود على ملف المياه فحسب، بل يتعلق بالموارد الطبيعية وتنميتها بوجه عام. فمن المفترض أن المصلحة المصرية لدى المصريين هي فوق كل اعتبار، كما أن المصلحة الإثيوبية لدي الإثيوبيين فوق كل اعتبار هي الأخرى والسودان مثلهما، مما قد يشعر الكثير بحتمية تصادم تلك المصالح بشكل مباشر.. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن النزاع لا فكاك منه، لأن مساحات التعاون تفوق المساحات الخلافية فيما يتعلق بنهر النيل تحديدا، وبما يتيحه من مجال واسع للتعاون في تنمية موارده والاستفادة منها بالطريقة المثلى؛ فنمط التعاون الجاد القائم على المنفعة المتبادلة والتكامل سوف يمُكن الدول الثلاث المحورية في الملف من الاستفادة بشكل أفضل من المزايا النسبية لكل منهم، مثل الري على نطاق واسع في الأراضي المنخفضة والري على نطاق صغير وتوليد الطاقة عالية الكثافة في المرتفعات على سبيل المثال. لن تُحل أزمة حوض النيل من خلال اللجوء إلى الطريق القانوني أو سبل الردع السياسي والذي قد يتطور إلى العسكري كما يروج البعض برعونة، لأن مساحة التعاون ما بين دول حوض النيل متاحة ولا يجوز إطلاقا لأي طرف أن يحول الأزمة إلى معادلة صفرية.. الأمر بحاجة إلى نظرة أكثر شمولية في حوض النيل، لأن من حق دول المنبع أن تسعى نحو فوائد مادية من أنماط التعاون فيما يخص نهر النيل وليس فقط بعض الشعارات، وتشمل الفوائد المادية إنتاج الطاقة الكهرومائية والري والسيطرة على الفيضانات وبعض المشاريع المرتبطة بالإمداد المائي ومشروعات إدارة مستجمعات المياه. إذن ينبغي علينا أن نتناول دينامية الأزمة من منطلق سعي عدة دول نحو التنمية ودول أخرى تسعى لتأمين إحتياجتها الحيوية، وبذلك فمن شأن إطار التعاون في حوض النيل أن يسعى الجميع من خلاله إلى تلبية المصالح الأساسية لدولتي المصب والمصالح المختلفة لدول المنبع بشكل يؤدي إلى المفاضلة، حيث تدعم مصر التنمية في دول المنبع، بينما تلتزم دول المنبع تأمين موارد مصر المائية وغيرها مثل الطاقة الكهرومائية.. فعلى إثيوبيا والسودان أن يعكفا على صياغة وتنفيذ سياسات وطنية للمياه والاستفادة من صور التعاون المتاحة والحصول على الدعم المالي والفني من أجل الاستفادة من مواردهما المائية بطريقة مثلى، كما على مصر أن تعكف على رفع كفاءة استغلال مواردها المائية على المستوى الوطني والاستفادة من التعاون لتنفيذ مشاريع في دول المنبع والسودان، لتأمين استخدامها الحالي والمستقبلي من المياه وتبادل المنافع الاقتصادية من أجل الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة. على مصر والسودان وإثيوبيا، أطراف المعادلة الرئيسيين الوصول إلى مقاربة تنموية شاملة "A win-win approach"، لا تحفظ حقوق الدول التاريخية فقط ولكن تقود إلى تنمية موارد كافة الدول على نحو يرتقي بمنطقة حوض النيل.. العلاقات الدولية في منطقة حوض النيل يجب أن تقوم على أسس من التكامل والمنفعة المتبادلة، وهذا لن يتحقق سوى بالابتعاد عن الخطابات العدائية وجهود نحو تقليص الفجوة بين الأطراف، ومصر عليها دور كبير لأن تلعبه في هذا الشأن تحديدا، فيكفيها سنواتها العجاف السابقة في أفريقيا.