بنبرة الأم الحنون أجابتني "ماما خيرية" كما تناديها فتيات مدرسة النور للكفيفات، لا تعرف على طريقة الفلاش باك بتلك الفتاة الصغيرة التي فقدت بصرها فمنحها الله بصيرة وطموحا جعلاها تتحدى الصعاب، لتحصل على ليسانس الآداب الذي طالما حلمت به، ليكون نقطة الصفر لانطلاقها نحو العمل الاجتماعي. وقالت السيدة خيرية أحمد: تزوجت برجل زواج صالونات، إلا أنه كان زواجا يفتقد للتوافق الفكري فكان زوجي يشعر بأنني أقوى منه في التفكير المنطقي حتى أنه كان يتهمني بأنني أتعمد التعالي عليه بالرغم من أنني كفيفة، وحينما عجزنا عن إيجاد نقاط اتفاق تم الانفصال بعد سبع سنوات زواج. وكما هو معروف أن الزواج مودة ورحمة وسكن، فإذا افتقد لهذه المقومات كان الانفصال هو الحل الأفضل، كما قال تعالى: "فإن يتفرقا يغني كل من سعته" لأتحمل المسئولية بمفردي، ولم أفكر في رفع قضايا أو الوقوف أمام والد بناتي في المحاكم أو ما شابه، فقد كان الطلاق عن قناعة من الطرفين، لأتابع حياتي التي اخترتها بملء إرادتي ولم تفرضها عليّ الظروف، بدليل أنني فضلت العمل الاجتماعي، وتمسكت بعملي كأمينة مكتبة على أن أكون مدرسة فصل، لأكون أكثر قربا من بناتي طالبات المدرسة، وأجتهد في حل مشكلاتهن، وأتمكن من التواصل معهن ونقل خبرتي الحياتية، فعلى الرغم من أنني مصابة بنفس الإعاقة التي تعانيها الفتيات في مدرستي إلا أنني أشفق عليهن، فقدرتهن على التحمل تختلف عن قدرتنا، كما أن ظروفهن أصعب من ظروفنا. أنا الآن أم لفتاتين إحداهما خريجة خدمة اجتماعية وتعمل في مؤسسة الدفاع الاجتماعي مع أطفال الشوارع، والأخرى ليسانس حقوق وأيضا مشتركة في أحد أنشطة العمل الاجتماعي، فأنا وبنات مدرستي وأغلب أصحاب القدرات الخاصة نمتلك من الطاقة والطموح ما يزلزل الصعاب لكن المشكلة في الإداريات والروتين الممل لنا وللأصحاء على حد سواء. فارتفاع ضغط العين قد يصيب الإنسان بالعمى فجأة، لذا قررنا الانفصال عن واحدة من كبرى الجمعيات الخيرية لأنها تعتمد على الروتين، وتعمد على دراسة الحالة لفترة طويلة غير مدركات أن طول المدة قد يؤدي من مشكلة في العين إلى فقدها تماما. والمشكلة الثانية في نظرة المجتمع لنا شئنا أم أبينا لذا فدائما ما نرفع شعار "انظر إلى كفاءتي ولا تنظر إلى إعاقتي" فأنا أمتلك ال24 قيراطا التي يمتلكها غيري، ونؤمن بقيمة التعليم فالجهل عدو المصريين الأول، وما دمنا على قيد الحياة نبحث عما يفيد الناس، من دائرة صغيرة لأكبر حتى تتلاحم هذه الدوائر. وللأسف فبقدر التقدم التكنولوجي الموجه لفاقدي البصر إلا أنه لم يصل للجميع، فإذا كانوا يطلقون علينا معاقين فيجب أن يعرفوا أن الإعاقة تأتينا من الخارج، فنحن نمتلك الكثير غير أن الظروف هي التي تعيقنا عن تحقيق أحلامنا. وتابعت "ماما خيرية": كان لازم أتحدى إعاقتي وألا أقف عند حد معين، ولا أستطيع أن أنسى فرحة الأم االتي تفقد ابنتها النظر فجأة وتضطر لنقلها من التعليم العادي إلى التعليم الخاص بالمكفوفين، حينما نساعد على انتشال إنسانة من الحياة في كآبة، خاصة أن فقد البصر لا يتوقف على سن معينة. واختتمت: "إحنا اللي هنعمل لنفسنا، أنا سأزرع نفسي في المجتمع مثل الشجرة المثمرة"، وبعد 32 سنة عمل في مدرسة النور للكفيفات وقبل الخروج على المعاش بسنتين أردت أن أترك للتلميذات مكانا تنتمين له فسعيت لإنشاء مركز تعليمي قريب من المدرسة، رسالته تعليمية وتثقيفية مهنية، والآن نقدم عدة مشروعات تنموية للعشوائيات، وفي الأيام المقبلة تسعى الجمعية لتوسعة التدريب على الحرف اليدوية، وتوصيل الخامات لغير القادرين على الخروج من المنزل وتسويق منتجاتهم.