"لقد انتظرتُ وفكرتُ كثيرا في الجريمة المروعة التي ارتكبت في حق قدس الأقداس من ديننا وتاريخنا وحضارتنا، وفى النهاية فإننى لم أجد غير تأكيد جديد للمعانى التي كانت واضحة أمامنا جميعا منذ اليوم الأول لتجربتنا القاسية وذلك أنه لا بديل ولا أمل ولا طريق إلا القوة العربية بكل ما تستطيع حشده وبكل ما تملك توجيهه وبكل ما تستطيع الضغط به حتى يتم نصر الله حقا وعزيزا"، نصّا من رسالة الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر لوزير الحربية يومئذ "محمد فوزى"، على خلفية "حريق الأقصى"، في ستينيات القرن الماضى، ثم أردف قائلا: " لقد فتحنا للسلم كل باب، ولكن عدو الله وعدونا أغلق دون السلم كل الأبواب، ولم نترك وسيلة إلا وجربناها ولكن عدو الله وعدونا عرقل الوسائل، وسدّ مسالكها وأظهر للدنيا كلها ما كان خافيا من أمر طبيعته ونواياه"، وفى موضع ثان يقول: " إن هناك نتيجة واحدة يجب أن نستخلصها لأنفسنا ويتحتم أن نفرض احترامها مهما كلفنا ذلك ألا وهو أن العدو لا ينبغى له ولا يحق له أن يبقى حيث هو الآن.. إننا أمام عدو لم يكتف بتحدى الإنسان ولكنه تجاوز ذلك غرورا وجنونا ومد تحديه إلى مقدسات إرادها الله بيوتا له وبارك من حولها"، قبل نحو 1500 عام.. تدخل الله لحماية بيته الحرام، من جيش "أبرهة" الغاشم، وأمطره وجنوده بطير أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلتهم كعصف مأكول، لم تكن هناك يومئذ جيوش مرابطة، ولا قواعد عسكرية ضخمة، ولكن بعدما دار الزمان دورته، وزاد المسلمون على المليار نسمة، سكنهم العجز، وامتلأت قلوبهم بالخوف، وانعطف قلوبهم بالسماء وعجزوا عن التصدى عن أي عدوان يطال ثالث الحرمين، "الأقصى" لا يزال أسيرا، الأقصى لا يزال مستغيثا، إن نطقت جدران "الأقصى"، فسوف تكتب حتما شهادة وفاة العرب والمسلمين، جيش الاحتلال الغاشم يلهو في "الأقصى"، ويعبث بمحتوياته وكنوزه الأثرية، ويرهب المصلين، ويغلق أبوابه حينا، ويفتحها حينا، ويفتح قنابل الغاز على المصلين حينا آخر الكيان الصهيونى يدرك أن العرب أمة يقتلها التمزق والتشرذم، يعلم أن أصحاب الفخامة والزعامة مشغولون بأمور أخرى غير "الأقصى"، "الأقصى" لم يعد على رادر أصحاب الحل والعقد، حضور حفل غنائى أو فعالية لا قيمة لها أولى من التفكير في صد العدوان على "أولى القبلتين"، نحو أربعين عاما مرت على رسالة "ناصر" إلى "وزير حربيته" التي شدد فيها على أن " أنظارنا تتطلع الآن إلى المسجد الأقصى في القدس وهو يعانى من قوة الشر والظلام ما يعاني"، ما أشبه الليلة بالبارحة، كأنه يصف حال "الأقصى" الذي تعرض لانتهاكات مخزية خلال الأسبوعين الماضيين ولاتزال مستمرة حتى كتابة هذه السطور، وسط صمت مخز مريب متكرر، لقد توجه "ناصر" بالدعاء إلى الله في رسالته "أن يمنحنا الصبر والمعرفة والشجاعة والمقدرة لكى نزيل الشر والظلام"، ولأنه كان حاكما حالما، فإنه كتب في رسالته تلك: " ولسوف تعود جيوشنا إلى رحاب المسجد الأقصى، ولسوف تعود القدس كما كانت قبل عصر الاستعمار الذي بسط سيطرته عليها منذ قرون حتى أسلمها لهؤلاء اللاعبين بالنار، سوف نعود إلى القدس وسوف تعود القدس إلينا ولسوف نحارب من أجل ذلك ولن نلقى السلاح حتى ينصر الله جنده ويعلى حقه ويعز بيته ويعود السلام الحقيقى إلى مدينة السلام"، وهكذا مات "عبد الناصر" ولم يتحقق شئ واحد مما كان يحلم به ل"ثالث الحرمين" ولا لمدينة القدس، ولن يتحقق فلا القدس عادت لنا ولا عدنا لها، فقد أدمن العرب وساداتهم الهوان والانكسار والتفريط، وسوف يبقى "الأقصى" رهن الأسر والبطش، فيما نحن مشغولون بمن يشكك أصلا في وجوده وهل هو هنا أم هناك، وبمن يصف من حرره يوما بأنه "أحقر شخصية في التاريخ"، وكأن من عجزوا عن تحريره وصد العدوان عنه هم أعظم قادة التاريخ، نحن نجيد تزييف التاريخ، خلط الأورقات، صناعة الكذب، ولكننا لن نملك يوما القدرة على تحرير "الأقصى" الذي يدعو الله أن يحميه كما حمى "البيت الحرام" من قبل.. عن "الأقصى"، ومحنته المستمرة، وفصولها التي لا تنتهى، والهوان العربى الممتد المتراكم.. تدور صفحات هذا الملف..